الإمام الباقر (ع)؛ مؤسِّس أول سكّة إسلامية

الإمام الباقر (ع)؛ مؤسِّس أول سكّة إسلامية

في وقتٍ كانت فيه تهديدات وإهانات الإمبراطورية الرومانية قد أوقعت خليفة المسلمين آنذاك في مأزقٍ سياسي واقتصادي خانق، حوّل التدبير الدقيق الذي قدّمه الإمام الباقر (ع) لضرب سكّةٍ نقدية مستقلة هذا التهديد لا إلى مجرد أمرٍ مُحايد، بل إلى فرصة تاريخية.

في سياق تشكّل الحضارة الإسلامية، شكّل الاحتكاك بالحضارات المتقدمة المعاصرة تحديات متعددة في مجالات شتى، وكان من أكثرها حساسية المجال الاقتصادي ونظام التبادل المالي، الذي كان خاضعًا آنذاك لهيمنة الإمبراطورية الرومانية. وكانت هذه التبعية الاقتصادية قابلة لأن تتحول إلى أداة نفوذ سياسي وثقافي. وفي هذا الإطار، تكشف حادثة تغيير علامة الورق، والتهديد الذي أعقبها من قِبل قيصر الروم، ثم ردّ الإمام الباقر (ع) الحكيم، عن نموذجٍ بالغ الدلالة لكيفية تعامل القادة الدينيين بوعي وعقلانية مع الأزمات الكبرى، وتُظهر كيف يمكن للقيادة القوية والواعية أن تحوّل التهديدات والعقوبات إلى فرص.

في مطلع القرن الأول الهجري، كانت تقنية صناعة الورق حكرًا على الإمبراطورية الرومانية. وحتى مسيحيو مصر، الذين كانوا يمارسون صناعة الورق، كانوا ـ وفقًا للتقاليد الرومانية ـ يضعون على أوراقهم الرمز الثلاثي «الآب والابن والروح» (الأب، والابن، والروح القدس). غير أن عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي، انتبه إلى هذا الأمر، ولما رأى ذلك الشعار استشاط غضبًا، متسائلًا: كيف يجوز أن تكون مصنوعات الورق في مصر الإسلامية حاملةً لرمزٍ مشرك؟! فأصدر فورًا أمرًا إلى والي مصر يقضي باستبدال ذلك الشعار بعبارة التوحيد:
«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»
كما عمّم أمرًا مماثلًا على سائر ولاة الأقاليم الإسلامية، يقضي بإتلاف الأوراق القديمة، وتداول نسخ جديدة ذات هوية إسلامية.

ردّ فعل الإمبراطورية الرومانية والمأزق السياسي

ما إن وصلت الأوراق التي تحمل الشعار الإسلامي إلى حدود الإمبراطورية الرومانية حتى أثارت غضبًا شديدًا لدى قيصرها، فكتب رسالة إلى عبد الملك، محتجًا بحجّة تاريخية مفادها: إن كان منع الشعار الروماني أمرًا صائبًا، فذلك يعني أن الخلفاء السابقين كانوا مخطئين، وإن لم يكن كذلك، فالخطأ منك أنت. وأرسل مع الرسالة هدايا ثمينة، مطالبًا بالعودة إلى الوضع السابق. لكن عبد الملك لم يكتفِ برفض الهدية، بل لم يردّ على الرسالة أصلًا.

فعاد القيصر فأرسل هدية مضاعفة، وكتب: «لعلّك رأيت الهدية الأولى قليلة فلم تقبلها، فها أنا أبعث إليك بضعفها، وأرجو أن تقبلها مع تلبية طلبي السابق». لكن عبد الملك رفض الهدية مرة أخرى، وترك الرسالة دون جواب.

فكتب القيصر للمرة الثالثة: «لقد رفضت هديتي مرّتين ولم تُلبِّ طلبي، فأرسلت لك هذه المرة هدية مضاعفة ثلاث مرات. وأقسم بالمسيح، إن لم تُعد الأمور إلى ما كانت عليه، فسآمر بسكّ الذهب والفضة مع نقش سبٍّ لرسول الإسلام، وأنت تعلم أن سكّ النقود من اختصاصنا نحن الروم. وعندما ترى تلك النقود المتداولة وفيها سبّ نبيّكم، سيتصبّب العرق خجلًا من جبينك. فالأَولى لك أن تقبل الهدية وتُنفّذ طلبنا لتبقى علاقاتنا الودية كما كانت».

هذا التهديد وضع عبد الملك في موقف بالغ الصعوبة وغير مسبوق، فقال بحسرة: «أظنني أتعس مولودٍ في الإسلام، إذ كنت سببًا في أن يُسبّ رسول الله (ص)». فجمع مستشاريه طلبًا للمخرج، لكن أحدًا منهم لم يقدّم حلًا. وهنا قال أحد الحاضرين له: إنك تعرف بنفسك طريق الخلاص، لكنك تتغافل عنه. فسأله عبد الملك: «وما هو الطريق الذي أعرفه؟» فقال: «عليك أن تطلب الحلّ من باقر أهل البيت (ع)».

تحوّل الأزمة إلى فرصة

اقتنع عبد الملك بهذا الرأي، وأمر والي المدينة أن يوفد الإمام محمد الباقر (ع) إلى الشام مكرّمًا. فلما حضر الإمام (ع)، عرض عليه الخليفة تفاصيل القصة كاملة. فأجاب الإمام قائلًا:
«إن هذا التهديد من القيصر لن يُنفّذ أبدًا، ولن يُمكّن الله من ذلك. والحلّ يسير؛ اجمعوا الصناع فورًا واضربوا سكّة إسلامية مستقلة. اجعلوا على أحد وجهيها سورة التوحيد، وعلى الوجه الآخر اسم رسول الله (ص)، وبذلك تستغنون عن سكّة الروم».

ثم حدّد الإمام (ع) بدقة لافتة المواصفات الفنية للعملة، فقال: يجب أن يكون وزن كل عشرة دراهم من الأنواع الثلاثة مساويًا لسبعة مثاقيل، وأكّد على ضرورة نقش اسم مدينة السكّ وتاريخ السنة على كل قطعة.

نفّذ الخليفة أوامر الإمام الباقر (ع) على الفور، وأُبلغت جميع أقاليم الدولة الإسلامية بأن تكون المعاملات المالية حصرًا بالعملة الجديدة، وأن يسلّم أصحاب النقود القديمة ما لديهم ليأخذوا بدلها العملة الإسلامية. ثم أُخبر رسول القيصر بهذا التحوّل الجذري وأُعيد إلى بلاط روما.

وعندما عاد المبعوث ونقل ما شاهده وما بلغه من رسالة الخليفة، أصيب كبار الروم بالدهشة. أصرّ بعضهم على تنفيذ التهديد، لكن القيصر قال بواقعية: «لم يكن قصدي سوى إخافة عبد الملك ليخضع، أما الآن وقد توقفت المعاملات بالعملة الرومانية في البلاد الإسلامية، فإن تنفيذ التهديد لا طائل منه ولا جدوى».

تحليل حلّ الإمام الباقر (ع)

في هذا المأزق السياسي والاقتصادي، شكّلت الاستعانة بالإمام محمد الباقر (ع) نقطة تحوّل حاسمة. ويمكن تحليل الحل الذي قدّمه في المحاور الآتية:

1. تحييد التهديد عبر الاستغناء
باقتراح سكّ عملة إسلامية مستقلة، قطع الإمام (ع) أصل التبعية، انطلاقًا من مبدأ استراتيجي مفاده أن «فاعلية التهديد مشروطة بوجود الاعتماد».

2. بناء الهوية الرمزية والإعلامية
صمّم الإمام محتوى العملة بحيث تصبح كل قطعة نقد وسيلةً لنشر الهوية، فنقش سورة التوحيد واسم النبي (ص) جعل تداول العملة حاملًا لمعاني التوحيد ومحبة الرسول.

3. إرساء نظام نقدي معياري وحديث
تأكيده على الوزن الدقيق، ونقش مكان السكّ وتاريخه، يعكس وعيًا بأهمية الشفافية، وقابلية التتبع، وبناء نظام مالي موثوق ومتماسك على مستوى الدولة الإسلامية.

4. التحرّر من التبعية الاقتصادية
للمرة الأولى امتلك العالم الإسلامي عملته المستقلة، وتحرّر من الاعتماد على الروم في سكّ النقود، كما أسهم توحيد العملة في تسهيل التجارة الداخلية. وهنا أظهر الإمام أن الخلاص لا يكون بالخضوع للتهديد، بل بصناعة الفرصة وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل