الفقه والتحديات المستجدّة: من التأمين إلى الميتافيرس

أستاذ في الحوزة العلمية يؤكد ضرورة دخولٍ جادّ وعاجل في موضوعات العصر

الحوزة – أكّد حجّة الإسلام والمسلمين مهدي خطيبي، أحد أساتذة الحوزة العلمية، على ضرورة أن تبادر الحوزات العلمية بصورة جادّة وفورية إلى ميدان تشخيص الموضوعات المستحدثة واستنباط أحكامها الشرعية، ولا سيّما في القضايا الجديدة كالتأمين، والتسويق الشبكي، والعملات الرقمية، والميتافيرس، والزواج الافتراضي، مشيرًا إلى أنّ الاكتفاء بالعمومات الفقهية لم يعد كافيًا في مواجهة تعقيدات الواقع المعاصر.

وفي حوارٍ أجراه مع وكالة أنباء الحوزة في مدينة ساري، أشار خطيبي إلى التاريخ العريق لمنهج الاستنباط الفقهي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، مبيّنًا أنّ البحث الفقهي يعود بجذوره إلى عصر الأئمة (ع)، حيث كانوا يعلّمون تلامذتهم منهج الاستدلال والاستنباط من القرآن الكريم، كما يظهر ذلك جليًا في روايات زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) في كيفية استنباط كيفية المسح في الوضوء.

وأوضح أنّ تربية الأئمة (ع) للفقهاء واستمرار هذا النهج عبر القرون كان العامل الأساس في عمق الفقه الإمامي وقوّته، مضيفًا: إنّ المقارنة بين كتاب عدّة الأصول للشيخ الطوسي وكتاب مصباح الأصول للمحقق الخوئي – رغم الفاصل الزمني الذي يقارب ألف سنة – تكشف بوضوح عن تطوّر المفاهيم وتعميقها، وهو تطوّر ملموس كذلك في المؤلفات الفقهية خلال القرنين الأخيرين.

التحدّي المعاصر: موضوعات بلا سابقة تاريخية

وأشار أستاذ الحوزة إلى أنّ التحدّي الأكبر في العصر الحاضر يكمن في ظهور موضوعات وقضايا غير مسبوقة في التاريخ الفقهي، لافتًا إلى أنّه – وللأسف – لم يُنجَز في كثير من هذه القضايا تشخيصٌ دقيق للموضوع، ولا دراسة فقهية معمّقة وشاملة، بل يُكتفى أحيانًا بعناوين عامة وأجوبة إجمالية.

وأضاف أنّ بعض الفقهاء يبرّرون ذلك بعدم وجود نصوص خاصة في هذه المسائل المستحدثة، فيلجؤون إلى العمومات والإطلاقات، ويقدّمون أجوبة احتياطية عند الاستفتاء، وهو أمر لا يلبّي حاجات المجتمع ولا يوفّر حلولًا عملية دقيقة.

التأمين: صناعة ضخمة بلا دراسة فقهية كافية

وعدّ خطيبي التأمين من أبرز هذه القضايا، موضحًا أنّه – ولا سيّما في أنواعه المختلفة كتأمين الحياة والحوادث – تحوّل اليوم إلى صناعة عالمية ضخمة ذات تداول مالي بمئات المليارات من الدولارات، مع أنّه مطروح منذ قرابة قرن من الزمان.

وتساءل: هل التأمين عقد مستقل في الشريعة؟ أم أنّ العقود المستحدثة غير نافذة شرعًا ولا بد من إرجاعها إلى العقود التوقيفية؟ مبيّنًا أنّ هذه المسائل محلّ خلاف بين الفقهاء.

وانتقد الاكتفاء بتحليل التأمين ضمن عناوين عامة كعقد الصلح أو الهبة المشروطة أو القول باستقلاله، مؤكدًا أنّ هذه الصناعة تشهد يوميًا تطورات ومنتجات جديدة لم تُبحث فقهيًا بالقدر الكافي، الأمر الذي قد يؤدّي إلى اختلاط حقّ الله بحقّ الناس، ويضع القاضي في مأزق عند الفصل في النزاعات.

التسويق الشبكي والعملات الرقمية

وفيما يخص التسويق الشبكي، أوضح أنّه دخل البلاد منذ نحو خمسة عشر عامًا، وحظي بإقبال بعض الشباب، وهو وإن كان يشبه ظاهريًا الشركات الهرمية المحرّمة، إلّا أنّه يختلف عنها من حيث وجود منتج أو خدمة حقيقية في الغالب، غير أنّ مسألة العمولات فيه لا تزال محلّ نقاش فقهي وتحتاج إلى دراسة أعمق.

كما نبّه إلى الانتشار السريع لظاهرة الزواج عبر الفضاء الافتراضي، محذرًا من أنّ التأخّر في معالجتها فقهيًا سيؤدي إلى فراغ تشريعي واسع.

أما العملات الرقمية، فاعتبرها من أكثر القضايا إثارة للأسئلة، مشيرًا إلى أنّ الملايين حول العالم ينشطون في هذا المجال، وأنّ خطورته تكمن في إمكانية ضياع رؤوس الأموال. وأضاف أنّ بعض الفتاوى السلبية صدرت بسبب عدم وضوح ماهية هذه العملات، وهو ما يستدعي جهدًا علميًا من الطلبة والأساتذة لتشخيص موضوعها بدقة.

وأشاد في هذا السياق بكتاب فقه العملات الرقمية الذي ألّفه الشيخ المدرسي، معتبرًا إيّاه خطوة علمية موفّقة يمكن البناء عليها في أبحاث لاحقة.

الميتافيرس وتحول الواقع الاقتصادي

وتطرّق خطيبي إلى ظاهرة الميتافيرس بوصفها من أخطر التحديات المستقبلية، حيث تُباع وتُشترى الأراضي والعقارات الافتراضية، وتُنشأ مدن رقمية ذات أنشطة اقتصادية حقيقية، مؤكدًا أنّ هذه التطورات تفرز مسائل فقهية جديدة يجب الاستعداد لها من الآن.

ضرورة تطوير المنهج الحوزوي

وختم حديثه بالتأكيد على أنّ الاكتفاء بتدريس المكاسب والرسائل لا يكفي للإجابة عن تعقيدات العصر، دون أن يعني ذلك الاستغناء عن تراث القدماء، بل المطلوب الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأن يتصدّى الأساتذة – ولو مع عدد محدود من الطلبة – لدراسة القضايا المستحدثة بصورة منهجية.

وأشار إلى أنّه في الوقت الذي يُدار فيه البلد وفق الفقه الإمامي، ما زالت أحكام العديد من القضايا الجديدة غير مبيّنة بصورة دقيقة، مؤكدًا أنّ تشخيص الموضوعات هو المهمة الأساسية للحوزات العلمية، وعلى الطلبة أن ينهضوا بهذا العبء، وإلّا فإنّ المجتمع سيغرق في الإبهام، ولن يبقى أمام الفقه سوى الفتاوى الاحتياطية أو الإحالات العامة التي لا تحلّ المشكلة.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل