دراسة فقهية وقانونية لإشكالية جوهرية:

دراسة فقهية وقانونية لإشكالية جوهرية:

سكوت المُشرِّع؛ هل هو فراغ تشريعي أم تدبير مقصود؟

في بيان الوظائف الأساسية للحاكمية السياسية، يقوم الأصل الأوّلي على عدم سكوت المُشرِّع؛ إذ إنّ الشأن الجوهري للسلطة الحاكمة يتمثّل في فضّ النزاعات وفصل الخصومات داخل المجتمع. غير أنّ تحديد الموارد التي يُعدّ فيها سكوت المُشرِّع جائزًا، تحوّل إلى أحد المحاور الجدلية الرئيسة في الفقه الدستوري والحقوق العامة. وتبرز الإشكالية بصورة خاصّة عند البحث في مدى شمول المادة 167 من الدستور الإيراني للمسائل الجزائية، وجواز رجوع القاضي إلى المصادر الفقهية عند فقدان النص القانوني، وهي مسألة وُصفت من قِبل المختصّين بأنّها «مَعرَكة آراء»، بما يكشف الحاجة الملحّة إلى بلورة نظرية موحّدة في هذا المجال.

في إطار برامج المدرسة البرلمانية لمركز البحوث الإسلامية التابع لمجلس الشورى الإسلامي، عُقدت جلسات علمية متخصّصة بعنوان:
«ماهية، نطاق وآثار سكوت المُشرِّع في مواجهة اختلاف الفتوى»، وذلك بمشاركة جامعة العلوم الإسلامية الرضوية.

وقد تحدّث في هذه الجلسة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد حسن وحدتي شبيري، مدير المدرسة العليا للفقاهة «عالم آل محمد (عليهم السلام)» وعضو الهيئة العلمية بجامعة قم، حيث تناول بالدراسة التحليلية الإشكاليات الفقهية والقانونية المتعلّقة بسكوت المُشرِّع، وعلاقته بالمادة 167 من الدستور، مع تفكيك دقيق لمفاهيم «القانون» و«الضمان التنفيذي»، وبيان الحدّ الفاصل بين القصور التشريعي والتدبير الحاكمي المتعمّد في عدم ذكر بعض الأحكام.

ماهية القانون والتمييز بين السكوت والمفاهيم المتقاربة

أكّد وحدتي شبيري في مستهلّ كلمته على ضرورة التمييز بين القانون الوضعي والتكليف الشرعي، مبيّنًا أنّ الركن المقوِّم للقانون في النظم السياسية هو وجود ضمانة تنفيذية حكومية. فليس كلّ ما يُعدّ محرّمًا فقهيًا يدخل بالضرورة في دائرة القانون، ما لم تتبنّه السلطة الحاكمة بآلية تنفيذية مدنية أو جزائية.

كما تناول الفروق الدقيقة بين «السكوت» ومفاهيم قريبة منه كالإجمال، الإبهام، والتعارض، موضحًا أنّ السكوت في الاصطلاح الحقوقي يعني امتناع المُشرِّع عن اتخاذ موقف إثباتي أو سلبي تجاه واقعة حقوقية أو وصف جرمي معيّن. وأكّد أنّه لا يصحّ عدّ كلّ عدم ذكر سكوتًا تشريعيًا؛ إذ قد يكون عدم الذكر تعبيرًا عن نفي القيد، وهو بحدّ ذاته نوع من التشريع السلبي.

الجذور القرآنية والروائية للسكوت التشريعي

أشار مدير المدرسة العليا للفقاهة إلى أنّ السكوت في التشريع الإسلامي لا يُفهم بوصفه غفلة أو نقصًا، بل قد يكون نابعًا من حكمة ومصلحة. واستشهد بقوله تعالى في سورة المائدة (الآية 101)، حيث نُهي المؤمنون عن السؤال عمّا يكون السكوت عنه أصلح لهم.

كما استحضر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:

> «لم يَدَعها نِسيانًا»
ليبيّن أنّ سكوت الشارع أحيانًا إنّما هو توسعة على العباد، وميّز بين هذا السكوت المصلحي التشريعي، وبين السكوت الناتج عن نقص أو خلل في التقنين البشري، داعيًا إلى استكشاف غرض المُشرِّع قبل إصدار الأحكام القضائية.

المادة 167 من الدستور: من العُرف إلى الفقه

وتناول وحدتي شبيري التحوّل الجذري الذي أحدثته المادة 167 من الدستور في النظام القضائي، موضحًا أنّ القاضي قبل الثورة كان يرجع عند سكوت القانون إلى «روح القانون» أو «العرف المسلّم»، بينما أصبحت المصادر الإسلامية المعتبرة والفتاوى الموثوقة بعد إقرار الدستور مصدرًا مباشرًا لسدّ الفراغ التشريعي.

وبيّن أنّ هذه المادة تُلزم القاضي بعدم الامتناع عن الحكم عند فقدان النص، بل توجب عليه الرجوع إلى الفقه لفصل الخصومة، مع التأكيد على أنّ الاستناد إلى روح القانون لا يزال عنصرًا مساعدًا في فهم مقاصد الشريعة والنظام القانوني.

إشكالية تطبيق المادة 167 في القضايا الجزائية

ناقش وحدتي شبيري التفريق الشائع بين القضايا المدنية والجزائية في تطبيق المادة 167، وانتقد الإطلاق في منع الرجوع إلى الفقه في المجال الجزائي بدعوى مبدأ «قانونية الجرائم والعقوبات».

وأوضح أنّ قانون العقوبات الإسلامي، لا سيّما في أبواب الديات والأروش، يتضمّن موارد مسكوتًا عنها لا يمكن البتّ فيها دون الرجوع إلى الفقه. واعتبر أنّ المعيار الحاسم هو مقام بيان المُشرِّع:

فإن كان في مقام الحصر، فسكوتُه يدلّ على عدم التجريم.

وإن كان في مقام البيان الإجمالي، وجب على القاضي سدّ الفراغ بالرجوع إلى المصادر الفقهية.

سكوت المُشرِّع بوصفه تدبيرًا حاكميًا

في بعده السياسي–الفقهي، أكّد وحدتي شبيري أنّ سكوت المُشرِّع أحيانًا يعكس إرادة واعية بعدم تفعيل بعض الأحكام الشرعية في ظرف زماني أو مكاني خاص، كما في بعض الحدود الثقيلة.

وبيّن أنّ إقامة الحدود من شؤون وليّ الأمر، فإذا اختارت الحاكمية ـ مراعاةً للمصالح العليا أو الاعتبارات الدولية ـ السكوت عنها في القانون، فلا يحقّ للقاضي إحياؤها بالرجوع الفردي إلى الفقه، لأنّ ذلك يُعدّ تجاوزًا للإرادة الحاكمة.

ضوابط اختيار الفتوى عند الاختلاف

وفي ختام الجلسة، تطرّق وحدتي شبيري إلى كيفية التعامل مع اختلاف الفتاوى، مشيرًا إلى أنّ العمل القضائي ـ كما هو المتّبع في مجلس صيانة الدستور ـ يُقدّم فتاوى وليّ الفقيه، ثمّ فتاوى الإمام الخميني (قده)، ولا يُشترط التقيّد بالقول المشهور.

كما أجاز للقاضي اختيار أيسر الفتاوى من بين الآراء المعتبرة علميًا، شريطة أن يكون ذلك في خدمة العدالة وتيسير شؤون الناس. أمّا في القضايا المستحدثة ـ كالأصول الرقمية (العملات المشفّرة) ـ حيث يسكت القانون والفتوى معًا، فإنّ القاضي مُلزَم بممارسة الاجتهاد الحقوقي في ضوء «ذائقة الشريعة» والقواعد الكلّية، منعًا لانسداد الأفق القضائي.

للمشاركة:

روابط ذات صلة

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل