كيف رسّخ الإمام الباقر (ع) أسس المعرفة الشيعية؟

كيف رسّخ الإمام الباقر (ع) أسس المعرفة الشيعية؟

ميلاد الإمام محمد الباقر (ع) يمثل مرحلة حاسمة في تاريخ الشيعة؛ مرحلة شهدت انتقال السلطة السياسية من بني أمية إلى بني العباس، مما أتاح مساحة غير مسبوقة لنشر المعارف الدينية. وتمكن الإمام الخامس للشيعة من ترسيخ أسس الفكر الشيعي لقرون طويلة من خلال المعرفة، وتربية التلامذة، وتنظيم الشبكة العلمية.

وفقًا لوكالة الأنباء “إمنا”، يُعتبر الإمام محمد الباقر (ع) في التاريخ الشيعي خامس الأئمة ومفصلاً في الحفاظ على الهوية الشيعية من خلال صياغة منظومة متكاملة للفكر الشيعي. تولّت إمامته في فترة كانت فيها الأمة الإسلامية تواجه أزمة شرعية سياسية، وصراعات داخل السلطة، وتآكلًا في هيكل الخلافة الأموية؛ وهي ظروف وفرت بالرغم من الضغوط وعدم الاستقرار، بعض الفجوات للنشاط العلمي والفكري لأهل البيت (ع). فالإمام الباقر (ع) أدرك هذا الوضع التاريخي بدقة، وقاد الإمامة بطريقة جعلت المعرفة والتعليم والتفسير العقلاني للمعارف الدينية محور النشاط الشيعي.

ما يميز الإمام الباقر (ع) هو دوره في إعادة بناء البنية المعرفية للشيعة، وهي بنية لم تكن قادرة على الظهور بشكل واضح تحت الضغوط السياسية في السنوات التي سبقت إمامته. ففي بيئة بدأت فيها القيود تتلاشى تدريجيًا، تمكن الإمام الباقر (ع) من نقل معارف القرآن والسنة النبوية وتعاليم أهل البيت (ع) من مستوى النقل المحدود والمتفرق إلى نظام قابل للتدريس والنقل والدفاع عنه. هذا النهج حوّل الشيعة من تيار معارض ومظلوم إلى مدرسة فكرية وعلمية منظمة.

وقد أُطلق على الإمام لقب “باقر العلوم” في المصادر التاريخية والروائية، وهو يعكس هذا الدور الأساسي؛ دور تمثل في كشف الطبقات الخفية للمعارف الإسلامية وتمييز التعاليم الأصيلة عن القراءات المحرفة، بما أصبح ضرورة تاريخية. وبتركيزه على التعليم وتربية التلامذة وتوسيع الشبكة العلمية، أسس الإمام قاعدة لم يكن من الممكن من دونها قيام المدرسة العلمية للإمام الصادق (ع) واستمرار الفكر الشيعي في القرون التالية.

وفي هذا السياق، قال حجت‌الاسلام والمسلمين مجيد آبكار أصفهاني، خبير ديني، في حديث مع وكالة إمنا: كانت الظروف التاريخية قبل إمامة الإمام الباقر، خاصة في عهد بني أمية، تجعل من الصعب توسيع المعارف الدينية بشكل علني للأئمة السابقين. فالإمام السجاد (ع) بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) كان في وضع يشبه الحصار، ليس حبسًا رسميًا، بل تحت مراقبة صارمة من قبل موظفين وجواسيس معينين، مما حدّ من الاتصال المباشر والواسع مع الشيعة.

وأضاف: في تلك الفترة كان عدد الشيعة محدودًا ومبعثرًا، وكان التواصل بين الإمام وأتباعه محدودًا جدًا، لذا أصبح نقل المعارف الدينية بشكل غير مباشر هو الطريقة الأساسية. حتى الصحيفة السجادية التي تركها الإمام السجاد (ع)، ورغم أنها على شكل أدعية، إلا أن محتواها يشمل الأحكام والتعاليم الدينية، وكانت وسيلة للحفاظ على الرابط العقائدي والفكري مع الشيعة ونقل المعارف إليهم.

وأشار آبكار إلى أن إمامة الإمام الباقر تزامنت مع نهاية حكم بني أمية وبداية حكم بني العباس، وهي فترة شهدت تحولات سياسية حاسمة. فبني العباس دخلوا السلطة بشعار إعادة الخلافة من بني أمية إلى أهل البيت، أي إعادة السلطة للإمام الباقر والإمام الصادق.

وأضاف: هذا الشعار أتاح في مرحلة ما مساحة أوسع للأنشطة العلمية والدينية للإمام الباقر والإمام الصادق، وتمكنوا خلال هذه الفترة من إقامة حلقات علمية وتربية العديد من التلامذة، ونشر العلوم الدينية والمعارف الإسلامية على نطاق أوسع، وتوفير أساس لنقل التعاليم العقائدية والفقهية بشكل منظم.

وذكر أن المصادر التاريخية تشير إلى أن عدد تلامذة الإمام الباقر والإمام الصادق بلغ حوالي أربعة آلاف، مع الإشارة إلى أن بعض الباحثين يعتبرون أن هذا الرقم يعكس نطاق الاتصال العلمي للإمام مع هؤلاء الأفراد، وليس وجودهم جميعًا في حلقة دراسية واحدة في وقت واحد.

وأشار آبكار إلى أن عدد الوكلاء وممثلي الإمام ازداد في هذه الفترة، مما وسع نطاق وصول الإمام إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامي، ونشر المعارف والاعتقادات الشيعية على نطاق واسع وتمكين الأجيال اللاحقة من الاستفادة منها. لهذا السبب، أُطلق على الإمام الباقر لقب “باقر العلوم”، لأنه في عهده تحقّق كشف وشرح ونشر العلوم الدينية والعقائدية للشيعة بشكل واسع، وما وصلنا اليوم من هذا التراث العلمي هو ثمرة تلك المرحلة.

وأضاف: استخدم العباسيون هذا الشعار في بداية حكمهم لكسب مكانة وقبول اجتماعي بين المسلمين، خاصة الشيعة، لكن بعد تثبيت السلطة تغيرت سياساتهم وارتكبوا الكثير من الظلم ضد الأئمة الأطهار، مما جعل فترة بني العباس من أصعب وأصعب الفترات على الشيعة والأئمة الشيعة.

وأشار الخبير الديني إلى أن تربية التلامذة في عهد الإمام الباقر والإمام الصادق أثمرت عن ظهور تلامذة بارزين أصبحوا فيما بعد من كبار رواة الحديث والعلماء البارزين، وقد لعب هؤلاء دورًا حاسمًا في نقل وحفظ علوم ومعارف الشيعة للأجيال التالية.

وبحسب وكالة إمنا، يمكن اعتبار الإمام محمد الباقر (ع) إمام تثبيت العقلانية في الشيعة؛ إمام وجه مسار الإمامة من المواجهة المباشرة إلى العمل المعرفي العميق وسط الفوضى السياسية وصراعات السلطة. وتتمثل أهميته التاريخية ليس في حدث واحد، بل في عملية مستمرة تم خلالها تحويل المعرفة الدينية من تجربة فردية محدودة إلى إرث جماعي دائم.

وقد أظهر الإمام الباقر (ع) العلاقة الواضحة بين العلم والإمامة، موضحًا أن بقاء الشيعة يعتمد بشكل أساسي على إنتاج المعرفة الواعية ونقلها بدقة. ومن هذا المنطلق، يحتل مكانة بارزة في التاريخ الإسلامي كإمام فتح الطريق للمعرفة وهدى مستقبل الشيعة، وهو الطريق الذي يظل حتى اليوم العمود الفقري لهويتهم الفكرية.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل