أستاذ الفقه وأصول الحوزة العلمية في خراسان في حديثه مع «اجتهاد»: أحد أسباب ضعف الفقه المتعلق بالفن هو الانحصار في دائرة الاستنباط الفقهي التقليدي

شبكة اجتهاد: حياتنا اليومية ممتزجة بالفن؛ فالسينما والتلفزيون والموسيقى والهندسة المعمارية وغيرها متشابكة في نسيج حياتنا الاجتماعية. والسؤال هنا: هل لعلم الفقه، بوصفه المسؤول الرئيس عن استخراج الأحكام الدينية، ما يقوله في هذا المجال من حياة الإنسان؟ ما علاقة الفن بالفقه؟ وما أهم التحديات التي تواجه فقه الفن؟ هل يمكن أن يصطلح الدين مع الفن؟ وكيف ينظر الفقهاء إلى الفن؟

الحجّة الإسلام والمسلمین مجتبی الإلهي الخراساني، أستاذ الخارج في الفقه والأصول في حوزة خراسان، إلى جانب تخصصاته المتعددة في الفقه والأصول والكلام والحديث، يكتب الشعر، درس السينما، ويعرف الفنون التشكيلية والهندسة المعمارية. وهو رئيس مكتب تطوير وتمكين في دائرة الإعلانات الإسلامية، ومؤلف لعدة أعمال من بينها دراسة فقهية قيمة حول ظاهرة الغناء. إن التمازج بين حياته العلمية والشخصية والفنية يجعله من أنسب الأشخاص للإجابة على هذه الأسئلة. فيما يلي قراءة تفصيلية للمقابلة الشيّقة حول هذا المجال البحثي المستجد في علم الفقه.

شبكة اجتهاد: ما المقصود بفقه الفن من وجهة نظر حضرتكم؟

الإلهي: في رأيي، يمكن للفقه أن يمتدّ إلى جميع الموضوعات التي يتناولها؛ فكما نقول فقه صلاة الآيات، فقه لباس المصلّي… وهكذا يمكن إضافة مفاهيم متعددة، مثل فقه الإعلام، فقه الفن، فقه الثقافة، فقه الاتصال، فقه المال، فقه الفضاء السيبراني، فقه التربية، وغيرها، بحيث يكون الهدف هو اكتشاف الأحكام والآراء الإسلامية المتعلقة بهذه المجالات.

أما إذا كان الهدف تحويل كلٍّ منها إلى فرع تعليمي مستقل، فهذا يستلزم مساراً منفصلاً للتدريس والبحث، بحيث يجتمع المتخصصون في هذا المجال ضمن جمعية ومجلة خاصة، ويصبح للفقه في هذه المجالات فروع متفرعة. وبحسب ما ذهب إليه علامه طباطبایی والإمام الخميني (قدس سره)، فإن تقسيم العلم يتبع أغراض العقل واحتياجاته، ويجب تحديد ما إذا كانت للفصل بين هذه الفروع مصلحة مستقلة، عندها يمكن اعتبار فقه الفن مثلاً كفرع مستقل.

أما من ناحية المنهجية، فإن طرق الاستنباط والقواعد الأساسية للفقه تظلّ واحدة، ولا توجد قواعد مستقلة لكل فرع. وأعتقد أن التعليم الفقهي لا يمكن تقسيمه في مراحل التعليم إلى أكثر من ستة أو سبعة فروع، أما في مجال البحث، فيمكن للفقه أن يتفرع إلى فروع متعددة.

وجهة نظري أن البداية يجب أن تكون في مجال الإنتاج العلمي والمحتوى، بحيث تُحدد الفروق والتخصصات البحثية تدريجياً، مثل مجموعات فقه التربية والسياسة، ثم تُدرج هذه الفروع تدريجياً في مستويات التعليم العليا (المستوى الرابع وما فوق). وبدء التخصص يجب أن يكون حينما يكون له معنى حقيقي ومؤثر، أما قبل المستوى الرابع، فالتخصص غير مفهوم عملياً، ولا أظن أن زملاءنا يعتقدون أن من يدرس فقه الفن بدلاً من فقه المعاملات يمكنه الاستغناء عن منهج المكاسب؛ فالمراد من المكاسب ليس مضمون الفقه المعاملاتي، بل المنهجية الاستنباطية والعمل الفقهي.

وأحد المخاوف الجوهرية لديّ هو إعطاء الأولوية للدراسات الثانوية، إذ قد يُضيع الكثير من المواهب فيها، بينما يمكننا في التخطيط الاستراتيجي لإدارة العلم أن نوزع المهام بين الحوزة والجامعة بشكل مدروس.

شبكة اجتهاد: ما أبرز التحديات التي تواجه فقه الفن من وجهة نظركم؟

الإلهي: يمكن تصنيف تحديات هذا المجال إلى ثلاثة محاور: الفهم الفقهي (التفقه)، الدعوة، وإقامة الدين.

أولاً، سأتناول أهم القضايا الفقهية المتعلقة بالفقه الفنّي في مجال التفقه.

أنا أرى الفن كمنظومة متكاملة تشمل عدة مستويات: بدايةً المفاهيم الأساسية والفلسفة الفنّية، ثم دورة الإنتاج والمعالجة والعرض والاستهلاك للأعمال الفنية، وصولاً إلى القضايا الاقتصادية المرتبطة بالفن، مثل المعاملات التجارية وغيرها. وفي جميع هذه المستويات، هناك حاجة إلى النظرية والاجتهاد الفقهي، لكن حتى الآن لم تشهد هذه الساحة نشاطاً بارزاً.

الشخص الذي يعمل فقهيًا في حقل الفن يجب أن يكون ملمًّا بأسس فلسفة الفن والمباحث الجوهرية المتعلقة به؛ أي أن يمتلك فهماً واضحاً لمفهوم الفن ولإنتاج الأعمال الفنية. ومع هذا الإحاطة، ستكون الاستنباطات التي يقوم بها صحيحة بطبيعتها. للأسف، بعض الباحثين لا يدركون أن جميع المباحث الفنية تندرج تحت باب الإنشائيات، ولا يمكن التعامل مع الأعمال الفنية كما لو كانت أخباراً موثوقة.

وأرى أن تجاهل عنصر الإيحاء والقيمة الفنية يمثل آفة حقيقية، ولم ينعكس هذا بشكل صحيح في بحوثنا الفقهية.

المقصود عندما يتعامل البعض مع الإنشائيات على نحو خبري، هو مثلاً القول بأن لوحة ما «غير واقعية» أو أن فيلمًا ما يحتوي على تقرير كاذب. بينما في الحقيقة، هذه الأحكام لا تنطبق على الفن؛ فالفن عمل إنشائي وإيحائي بطبيعته، وليس الهدف منه نقل خبر أو حقيقة معينة. لذا، العمل الفني، حتى لو كان فيلماً وثائقياً، لا يُوصَف بالصواب أو الخطأ بالمعنى الخبرِي التقليدي. ومع ذلك، هذا البديهي البسيط غالباً ما يُهمل في الدراسات الفقهية الحالية.

شبكة اجتهاد: ماذا تقصدون بعدم خبرية المقاصد الفنية؟

الإلهي: في الأعمال الفنية، لا يوجد ما يُسمّى بالتصريح الإخباري بمعنى الصدق أو الكذب. حتى في الأساليب الواقعية، المؤشر ليس نقل الواقع بل محاكاته؛ أي أن الفنان أو منتج العمل يقدم تصورَه الخاص عن الواقع، ولا يزعم أي عمل فني أنه تقرير إخباري عن الواقع. الفنان لا يقدّم تقريراً إخبارياً عن الواقع، حتى وإن كان يصوّر فيلماً وثائقياً، فنتاجه هو انعكاس لإدراكه ومواجهته للواقع.

لذلك، كما أشارَت رواياتنا، الجوهر في الفن هو تأثيره الإيحائي؛ فإذا أفضى هذا التأثير إلى نشر الباطل، حُرّم، وإلا فقد أُثني عليه. ولا ننسى أن الفن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخيال؛ فالعنصر الخيالي جزء أصيل من الفن. إذا قررنا تحريم كل إبداع، فماذا يكون موقف الصناعات الثقافية والمنتجات اليدوية؟ وإذا اعتبرنا كل شيء مباحاً، فماذا عن التماثيل ذات الروح؟

من المثير أن بعض الفقهاء الأكثر فهماً لم يجيزوا التصوير الكامل للإنسان، بينما أجازوا تصويره الجزئي. فهل ما حُرم في التصوير يتعلق بسرد واقع حقيقي؟ أي هل معنى الروايات القائلة بحرمة صناعة ذوي الروح، أو الكراهة الشديدة للصلاة تجاهها بلا قصد للعبادة، هو السرد عن واقعٍ ما؟ فمثلاً، إذا كان هناك لوحة بها صور للحيوانات، هل يعني أن تلك الحيوانات كانت مطابقة للواقع؟ في حين أن كثيراً من اللوحات المزخرفة بالخطوط الحيوانية لا تُظهر حتى أعضاء الحيوان أو الإنسان بشكل واضح، فلماذا تم التحريم؟

يجب أن ننتبه إلى أن هذه الأحكام تحتاج أحياناً إلى مقارنتها مع بعضها؛ فإذا قلنا إن الغناء، والموسيقى، والرسم، والنحت حرام، فحين نجمع هذه الأعمال معاً، يبدو أن الإسلام حرّم جميع الفنون البصرية. هل هذا فعلاً رأي الإسلام؟ لم يُدرَك أن وضع هذه الأعمال معاً يشكل كلّاً واحداً؛ فهل هذا الكلّ ممكن تصديقه من قبل الإنسان؟ هل الإسلام يقبل الفنون الأدبية واللفظية لكنه يرفض التصوير؟ أرى أننا لم نفكر في هذه المباحث بما فيه الكفاية.

مثال آخر: بعض الفقهاء يقولون إن صناعة الدمى حرام لكن بيعها وشراؤها حلال. ما معنى تحريم جزء من هذه السلسلة الفنية وترك الجزء الآخر؟ هذا يؤدي إلى أثر اجتماعي كبير؛ إذ أن حظر إنتاج هذه الأعمال يترك المجال للغير المسلمين لإبداعها، ونحن نكتفي بالاستهلاك فقط. أطفالنا يشترون الدمى الغربية، لأنها متاحة للبيع والشراء، لكن إنتاجها ممنوع. بالتالي نصبح تابعين ثقافياً لتلك المنتجات الفنية. فهل هذا جائز؟

تحدٍ آخر في ميدان التفقه هو الإهمال في مراعاة مستويات الاستنباط المختلفة في مقولات الفن.

في الأساس، فإن عملية الإستنباط تتم في ثلاث مراتب:

أ) الاستظهار: وهي المرحلة التي كانت تُمارس أيضاً في زمن أهل البيت عليهم السلام. وفي هذا السياق، يجب تقييم مصدر الحكم للتأكد من صحته، ليُبنى عليه الحكم الشرعي لاحقاً.

ب) الاستنباط: وهي أعلى من طبقة الاستظهار، وتشمل مقارنة النصوص المختلفة مثل الناصخ والمنسوخ، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد، وحل التعارضات بينها للوصول إلى حكم موحد.

ج) الاستنطاق: وهي أعلى من الاستنباط، ووفقاً لتعبير الشهيد صدر، الاستنطاق يعني أنه في هذه المقولات المستحدثة قد لا يكون هناك نص شرعي محدد أو خاص. هنا يجب أن نُمارس الاستنطاق. قال الإمام علي عليه السلام: «إلا فاستنطقوه»، أي يجب على العالم المطلع على جميع ظواهر القرآن أن يُستخرج الحكم منها.

استخدام هذه العمومات والمحكمات… عملٌ صعب؛ لأنه أولاً يتطلب تصوراً صحيحاً للمسألة، ثانياً يتطلب مطابقة الأمر مع الكتاب والسنة، وثالثاً يحتاج إلى استقصاء القواعد العامة من الكتاب والسنة، وهذه أمور شاقة. ويبدو أننا لم نُنجز الكثير في هذه المقولات فيما يخص فقه الفن.

اجتهاد: ما هي التحديات التي يواجهها فقه الفن في ميدان الدعوة؟

يتمثل التحدي الثاني في خلفية الفقه الدعوية. فالسؤال المطروح: إلى أي حد استطاع فقهنا أن يكون داعماً للترويج الفني للدين؟ بمعنى آخر، ما هو المقدار الذي نجح الفقه فيه ضمن مجال عرض القضايا الفنية الدينية على أهل الفن والجمهور، وتقديم التفسير والتبيين الصحيح لها؟ يبدو أننا لم نحقق نجاحاً ملموساً في هذا المجال، فالفكر الفقهي في هذا المضمار ليس متوافقاً تماماً مع الفن. ولدى العامة تصور بأن الفقهاء والشريعة ليس لهم شأن كبير بالفن، وقد يظهرون بعض التسامح مع فنون معينة مثل الخط العربي، أو لا يتعرضون لها بالجدية نفسها.

ومن جانب آخر، السؤال: إلى أي حد ساهم الفقه في الترويج الفني للدين؟ أي إلى أي مدى استطاع أن يوفر الآليات النظرية اللازمة لدعم الفن الديني؟ في هذا المجال، يبدو أن الفقه اتخذ موقف الصمت غالباً. فمثلاً، فيما يتعلق بأغنية أُنتجت عن الشهيد مطهري، لم يُرَ دعماً نظرياً من الفقهاء، ولم تُهيأ آليات لترويجها أو تأييدها. ومثال آخر، أن الفقهاء لم يمنحوا مكافأة لصانع فيلم عن الإمام علي عليه السلام، رغم أن العمل استُخدم في نشر قضية الإمامة، ولم يُسهلوا لقاء الفنانين مع المراجع لتثمين جهودهم.

هذا يوضح أن الفقه، رغم قدرته النظرية، لم يستثمر بعد إمكاناته لدعم الترويج الفني للدين بما يستحقه.

اجتهاد: ما هي التحديات التي يواجهها فقه الفن في مجال إقامَة الدين، باعتباره الساحة الثالثة لحضور هذا الفقه؟

إلهي: إقامة الدين تعني إعلاء الثقافة الإسلامية والحفاظ عليها. في هذا الصدد، يبدو أن التفاعل بين الفقه والأوساط الفنية في المجتمع – سواء من المنتجين، والموزعين، والناشرين، وصناع السينما، ومنتجي الأفلام، ومؤسسي الجمعيات الثقافية والفنية، وجامعي التحف، والإدارات الثقافية والفنية في المؤسسات المختلفة، ومراكز الثقافة – كان محدوداً جداً.

كما أننا نفتقر إلى رؤية واضحة حول دور الفن في إقامة الدين، لأن هذا الدور لم يُراجع بعد بشكل منهجي. على سبيل المثال، إذا درسنا الأشعار والقصائد من عصر النبي صلى الله عليه وآله إلى عصر الإمام العسكري عليه السلام، سنجد أنها لعبت دوراً في إقامة الدين في مجالات متعددة، مثل مواجهة الظلم، وتحقيق العدل والقسط، وتعزيز القيم الإسلامية الأخرى.

لذلك، إذا كان الفن قادراً على أداء هذا الدور الحيوي، فإننا بحاجة إلى برامج وخطط مدروسة لتعزيز إقامة الدين عبر الثقافة والفن، بحيث يصبح الفقه متمكناً من التأثير في هذه الأبعاد العملية للحياة الاجتماعية.

شبكة الإجتهاد: في إطار السؤال عن ضعف فقه الفن، إلى أي حدّ يعود هذا الضعف إلى الفرضيات، والمقاربات، والأسس، والمنهجيات المعتمدة في هذا الحقل؟

الهی: أفضّل استعمال مصطلح ضعف فقه الفن، الأعم من الضعف الذاتي والضعف الوظيفي، بدل أن أقول إن فقه الفن غير فعّال مطلقاً. فقه الفن هو تيار قائم على النمو، وإن كان هذا النمو بطيئاً ومحدوداً، لكنه متواصل نسبياً ولم ينقطع.

أما فيما يخصّ مدى ارتباط هذه الضعف بالأسس والمناهج والمقاربات، فنجد أن الفقه يمتلك مجموعة من المبادئ والمنهجيات والمقاربات العامة التي تجعل تعاطي الفقه مع الموضوعات المستحدثة صعباً، وتعرقل تفاعل الفقهاء مع المختصين في المجالات المتعددة والمتشابكة.

ومن أبرز هذه المعوقات:

  1. الاستعانة بآراء المختصين في العلوم الأخرى: من الناحية الفقهية، لم يتم تبيين نطاق وآليات الاستفادة من خبرات المختصين بصورة واضحة. نحن نكتفي غالباً بذكر ذلك من حيث الاستخدام اللغوي أو في المحافل التعليمية، بينما الاستخدام اللغوي حجّة في التعبير وليس في تحديد الحقيقة والمجاز. وقد شاع بين البعض أنّ القول اللغوي لا يعدّ حجّة.
  2. تقييم القيمة والمصالح والمضار للأشياء: مثل تقدير قيمة المال أو التعويض عن الضرر، الذي يُستخدم غالباً في مسائل الضمان والمسائل المالية الأخرى.
  3. المجال الصحي والمضار: حين لا يُفتح المجال لآراء المختصين، يصبح التعامل مع المجالات المتعددة التخصصات – مثل الفن أو القضايا الاقتصادية – صعباً، لأن الخبرة الفقهية وحدها لا تكفي.

وبالتالي، ضعف فقه الفن ليس ضعفاً مطلقاً، بل هو مرتبط بوجود محدودية في المنهجيات والمقاربات العامة للفقه التقليدي التي لم تتكيف بعد مع التعقيدات الحديثة والمتطلبات بين التخصصية.

اجتهاد: هل هذا التجاهل لرأي المختصين في العلوم الأخرى يشمل جميع المعارف، أم أنّه يخصّ الفقه فقط، نظراً لأن الفقهاء كانوا يقودون المجتمع من الناحية الروحية؟

الهی: هنا ثمة مسائل متعددة. جزء منها مرتبط بالجانب المعرفي؛ فالعلماء في كل حقل معرفي يلتزمون عادةً بجهازهم المعرفي الخاص. أما في الفقه، فهناك قضية ينبغي دراستها، وهي حجية قول الخبير والمختص، ويجب حلّها بأسلوب أصولي ومنهجي.

عامل آخر هو العامل الاجتماعي؛ فقد كان التعاون والحوار بين الفقهاء والفنانين ضعيفاً، وأرى أن السبيل الأمثل لذلك هو العمل المشترك، مثل الإنتاج السينمائي الديني.

كما أن فقه الفن يواجه عائقاً نفسيّاً، ويتمثل في أنّنا تحت تأثير الموروث التاريخي وبعض الروايات المتعلقة بالمنازل الآخرة، نشكّل صورة لاواعية تجعلنا غير متفائلين تجاه الفن. هذه الروايات تتحدث عن مسؤولية المجسمات والأعمال الإبداعية، مثل: “أحي هذا التمثال”، أو “سوف تلحقه النار”، أو “عقوبة العازف كذا وكذا”… قد يقول البعض إن هذه النصوص لا تُكوّن حُجّة فقهية واضحة ولا يمكن إصدار فتوى بناءً عليها، ولكن مجمل هذه المعاني والروايات يرسّخ في اللاوعي الفقهي نوعاً من التشاؤم والمسافة عن المسائل الفنية، رغم أنّ الفقيه يعتقد عقائدياً بمبدأ أصالة البراءة.

يبدو أنّ الفقيه في مقولات الفن، من الناحية النفسية، ميال إلى اعتبار الأصل هو الاحتياط والكراهة، بينما في أمور مكروهة أخرى، مثل باب الطلاق، غالباً لا يجرؤ أحد على فتوى بالكراهة.

الأصل في الإسلام هو المراقبة والاعتدال؛ فإذا أسرف الإنسان في استخدام المباحات، يصبح شهوانياً؛ ومن ثم يمكن القول: راقب خيالك أيضاً. لذلك جاء التحذير من تعليم وتعلّم وإكرام من يملك فناً غير نافع. وإذا كان الفن ذو فضيلة عالية، فإنه يصبح مثل العلم، وينبغي أن يكون في خدمة قيمة عليا، محققاً صلة عاطفية أو أخلاقية أو عقائدية.

اجتهاد: بالنظر إلى أنّ كل فرع من فروع الفقه (مثل فقه الاقتصاد، فقه العبادات…) يمتلك نصوصاً محورية، كقوله تعالى: “أوفوا بالعقود” في فقه الاقتصاد، قد يكون من الممكن إيجاد نصوص محورية أيضاً في فقه الفن. في هذا السياق، برأي حضرتكم، هل هذه النصوص المحورية كافية لمعالجة تحديات فقه الفن، أم أنّه يجب الرجوع إلى أدلة ومناهج أخرى؟ هل المصادر النصية محدودة أم أنّ هناك سبباً آخر؟

الهی: أود أن أكون صريحاً جدًا: أهل البيت عليهم السلام، أكثر من كونهم تحت ضغط الحكام في زمانهم، كانوا تحت ضغط ثقافة زمانهم؛ لذا فإن معظم الروايات التقية كانت تقية مداراتية وليست تقية خوفية. لذلك، التوقع بأن توجد نصوص حول الموسيقى يمكن أن تُطبَّق حرفياً في عصرنا، يشبه توقع وجود روايات حول العملات الرقمية اليوم، وهو توقع غير موضوعي.

النقطة الثانية هي تعقيد الأمور الفنية. هذه الأمور ليست من مسائل الحياة اليومية التي يسأل الناس فيها أهل البيت عليهم السلام باستمرار. فقد كان الناس في ذلك العصر منشغلين بأمور بسيطة مثل رفع الحجارة، ومراهنات الديوك، وما شابهها، وكان المعصومون يعلقون على هامش هذه الأمور. لذا لا تعتقدوا أنّ كل المثل العليا للإسلام يمكن إيجادها مباشرة في الروايات. بناءً عليه، يجب أولاً التحرك في هذا المجال استنباطياً، والبحث في روح الكتاب والسنة وأهداف الشريعة ومقاصد الشارع.

كذلك يجب أن ندرس: كم عدد أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا شعراء، وكم كان منهم خطاطين؟ من خلال هذه الأمور يمكن فهم ذوق أهل البيت عليهم السلام. وفي هذا المجال، لم يُبذل جهد كافٍ حتى الآن.

يجب أن نعلم أنّ غياب الوعي أو الملاحظة لا يعني غياب الوجود. علماً أنّ كثيراً من العبارات والألفاظ لم تكن موجودة في زمان الأئمة عليهم السلام، وما وجد منها لم يتم البحث عنه بدقة لغوية اليوم. مثال على ذلك: كلمة “غناء”؛ نحن نشتق منها الكثير من المعاني اليوم، بينما هذا اللفظ لم يكن له الشمول اللغوي والمعنوي الذي نفترضه في عصرنا.

اجتهاد: يبدو أنّ من المشكلات الرئيسية أنّ شبكة المسائل في فقه الفن غير منظمة، وهذا النقص في الشبكة يخلق صعوبات للباحثين والمديرين البحثيين، ويمنع من مقارنة المسائل وفهم مدى هذا العلم. في ضوء ذلك، هل ترون أنّ التحديات القائمة في المسائل تشارك في ضعف فقه الفن؟

الهی: أرى أنّه من الضروري أولاً تحديد شبكة الاحتياجات لفقه الفن، واستخدام فهم علم الفقه الذي يتولى تأمين هذه الاحتياجات والإجابة عليها كـ بنية تحتية لمسائل فقه الفن. بطبيعة الحال، جزء من هذه الشبكة متعلق بالفنانين، وجزء آخر بالعموم، وجزء ثالث بالحكومة والسلطة.

في رأيي، الإهمال في الاهتمام بالمسائل الواقعية لفقه الفن، وأبعادها وتنوعها وتدرجها الطبقي، يساهم في ضعف هذا العلم. على سبيل المثال: هل تُعد الاستثناءات المتعلقة بالغناء من مسائل فقه الفن؟ إذا طرأ سؤال لرجل رعي حول حكم العزف للحيوانات، هل يُصنّف ذلك ضمن المسائل الفنية؟ وهل هذا الرجل يعتبر فناناً؟ أو في ليلة الزفاف، إذا عزف أحدهم ورقص، هل يُعتبر هذا من مسائل الفن؟ أم أنّ المجتمع الفني يقتصر على القرّاء الذين ارتادوا فن الغناء في القرآن؟ بمعنى آخر، إذا ذكرنا عشرة مسائل في فقه الفن، فخمسة منها من هذا النوع.

سؤال آخر: هل معيار التحريم أو الإباحة هو وظيفة العمل الفني أم خصائصه الفنية مثل الأسلوب والإيقاع في الموسيقى؟ إذا كان الهدف نشر الفساد، هل يكون الفنانون أكثر فساداً من غيرهم؟ وهل يشكل صرف الوقت في العمل الفني مانعاً شرعياً؟

مثال آخر: إلى أي حد يمكننا عرض الأمر المعنوي والمجرد في قالب محسوس؟ مثل: تمثيل الصلاة باليد، أو تصوير قصة سفينة نوح.

أرى أنّ أحد أسباب ضعف فقه الفن هو التقوقع في مجال الاستنباط. إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الهدف من الفن هو دعم التبليغ الديني، يجب أن تكون تصريحاتنا ومنهجنا منسقة في ثلاثة ميادين: التفقه، إيصال الدين، وإقامة الدين. أنا أعارض بشدة أن يجعل التفقه نفسه تابعاً للعمل، بل أقول بالعكس: منطق إقامة الدين يجب أن يستند إلى تفقهنا؛ لذلك يجب أن يولي تفقهنا اهتماماً لاحتياجات إقامة الدين، ويكون قادراً على الإجابة عليها، وإنتاج الأفكار والآراء.

جهاز الفقه لم يحظَ بحضور بارز في أي من أجهزة الدولة، حتى في الإعلام، ولم يُجبِر على التدخل، لكنه تواصل بشكل أساسي مع قطاع القضاء، وبعد الثورة، نمت مسائل القضاء والشهادات بشكل ملحوظ. سبب ذلك، طلب جهاز القضاء، الذي استلزم دخول الفقهاء بسرعة إلى القضاء. هذا الدخول لم يحدث في مجال الفن.

للأسف، حجم إنتاجنا في حقل الفن غير كافٍ. فعلى سبيل المثال، إذا كنا بحاجة لعشرة آلاف قاعدة فنية، فتم إنتاج حوالي عشرة بالمائة فقط. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم تجميع المسائل الفنية بشكل منظم، ولم يُتخذ قرار حول كيفية استخدام الفن لتفسير الدين وعرضه، وما زلنا نتقدم في هذا المجال بغموض وارتباك.

اجتهاد: كيف تقيمون مستقبل فقه الفن في المجتمع الإسلامي، مع التركيز على المجتمع الشيعي؟

الهی: بما أنّ هذا المجال يتصل بالإنسان والدين معاً، فإنه لا يمكن تقديم تنبؤ واضح ودقيق؛ ومع ذلك، يمكن القول إننا نشهد حركتين متناميتين:

الأولى: أنّ قاعدة الدراسات الإسلامية المتعلقة بالظواهر المختلفة تتجه من العلوم الإسلامية نحو الفقه. كثير من الذين كانوا يظنون أنّ الدراسة الفقهية غير مجدية، أدركوا أنّ الأساس هو الدراسة الفقهية. ومن هنا، أرى أنّ مسار الدراسات الفنية سيتجه أيضاً نحو الفقه.

الثانية: أنّ هناك قاعدة ناشئة بين الفقهاء الشباب من جهة، والفنانين ذوي التوجهات الإسلامية من جهة أخرى، وأظن أنّ هؤلاء أكثر معرفة وتواصلاً فيما بينهم من الأجيال السابقة، وقد وصلوا إلى فهم متبادل، ويسعون معاً لإيجاد فرصة جديدة للتعاون.

كما أرى أنّ الباحثين الفقهاء لديهم إلمام أكبر بما ننتظره من فقه الفن، ويمكنهم التعبير وفهم ما يريده الطرف المقابل بشكل أفضل.

لذلك، أنا متفائل، لكن ذلك مرهون بمدى استثمار القلة الموجودة من فقهاء الشباب في هذا المجال علمياً، فالأمر يعتمد على جهودهم وإسهاماتهم في تطوير هذا الحقل.

*ترجمة مركز الإسلام الأصيل

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل