تقريرٍ تحليلي: العملُ الثقافيُّ المؤثِّرُ عمليةٌ منهجيةٌ متكاملة، لا مجرد نشاط إداريّ روتينيّ

رغم كثرة المؤتمرات والندوات والفعاليات ذات الطابع الثقافي التي تُقام سنويًا في المؤسسات والجامعات والمراكز المختلفة، يظلّ السؤال الجوهري مطروحًا: ما الأثر الحقيقي والدائم الذي خلّفته هذه الأنشطة في وعي الجيل المكلّف بصناعة التحوّل؟ وما حجم الثمرة الفعلية لهذه البرامج في تحقيق الأهداف المتوسطة والبعيدة المدى، بعيدًا عن كونها مجرّد أنشطة إدارية عابرة؟

ضرورة الحيوية في التخطيط

صرّحت نرجس شكرزاده، الباحثة والناشطة في الحقل الثقافي، في هذا السياق قائلةً: يبدو أنّ مشروع العمل الثقافي في كثير من المؤسّسات والجهات قد أُصيب بنوع من التآكل البنيوي، حيث نشهد تحوّل الثقافة إلى نشاط إداري روتيني، في حين أنّ إنجاز عمل ثقافي فاعل ومؤثّر يقتضي بالضرورة تعريفه بوصفه مسارًا عميقًا وتفاعليًا، لا مجرّد إجراء شكلي.

وأضافت: إنّ معيار النجاح في هذا النهج لا يقتصر على حسن تنظيم الفعالية، أو استكمال استمارات التقارير، أو تقديم إحصاءات أعداد المشاركين ونتائج الاستبيانات الكميّة؛ بل إنّ الشرط الأساس هو مدى القدرة على التأثير الحقيقي في الفئة المستهدفة أو جمهور ذلك الحدث أو البرنامج. كما ينبغي الالتفات إلى أنّ التأثير الثقافي لا يتحقّق إلا في ظلّ إيجاد فضاء للحوار، وإثارة الأسئلة، وتنمية روح المطالبة الواعية، وفتح آفاق التحدّي الفكري.

توجيهٌ لضبط البوصلة الثقافية للبلاد

وأضافت قائلةً: إنّ سماحة القائد (دام ظله) أشار قبل مدّة، في لقائه بالناشطين والقائمين على مؤتمر شهداء محافظة البرز، إلى نكتة بالغة الأهمية تُعدّ أساسًا في ضبط بوصلة الحركة الثقافية في البلاد. وقد صرّح سماحته في ذلك اللقاء على نحوٍ واضح بقوله:
«التفكير في عملٍ جيّد والتخطيط له… يمثّل نصف العمل؛ أمّا النصف الثاني ـ وهو الأهم ـ فهو المتابعة، والاستمرار في التتبّع، وتنفيذ ذلك العمل».

وتابعت شكرزاده: إنّ هذه العبارة، على بساطتها الظاهرية، تنطوي في عمقها على تحذير بالغ الأهمية والدقّة، وهو أنّه لا بدّ ـ إلى جانب حسن التفكير وسلامة التخطيط، ومع المتابعة الجادّة في هذا المسار ـ من الحيلولة دون الإنتاج الكثيف للأعمال عديمة الأثر أو ضعيفة التأثير، وصيانة الجهد الثقافي من التحوّل إلى نشاط شكلي لا يترك أثرًا حقيقيًا في الواقع.

ضرورة إعادة تعريف مقوّمات العمل الثقافي المؤثّر

وتحدّث سعيد سپاهي، الخبير في الشأن الثقافي والمحلّل في الأمن المعرفي، مبيّنًا وجهة نظره، فقال:
إنّه ينبغي قبل كلّ شيء الالتفات إلى أنّ القيام بعمل ثقافي صوريّ أو استعراضيّ، يفتقد إلى الأثر الحقيقي، يشبه إلى حدٍّ كبير عمليّةً نفسيّةً عابرة؛ إذ إنّه ـ على سبيل المثال ـ قد تُثار مشاعر الجمهور لفترة قصيرة عبر خطابٍ حماسيّ أو إنتاج ونشر مقطعٍ مرئيّ عاطفيّ، غير أنّ هذا التأثير، كالموج على سطح الماء، لا يلبث أن يزول سريعًا.

وأضاف: إنّ ما نستفيده من التوجيهات والبيانات الحكيمة لقائد الثورة الإسلاميّة (دام ظلّه) هو أنّ العمل الثقافي المؤثّر ليس حدثًا انفعاليًّا عابرًا، بل هو ناظر إلى تحقيق عمليّة إنماء ونموّ، وهو بمثابة «مسارٍ مُهندَسٍ لزرع الدوافع الأصيلة، وتنميتها، وترسيخها في قلب وجدان المخاطَب وروحه».

ثلاث ساحات أساسية ناظرة إلى مخاطَب البرامج

وأكّد سپاهي قائلاً: بناءً على ذلك، يتّضح لنا جيّدًا أنّ العمل الثقافي المؤثّر ليس عملاً يُكتفى فيه بمجرد «إقامته وإعداد تقريرٍ إداريٍّ جيّد عنه»، ولا هو نشاط ينجح ـ على سبيل المثال ـ في جذب عددٍ كبير من المخاطَبين لساعةٍ أو فترةٍ وجيزة؛ بل إنّ العمل المؤثّر هو ذلك النشاط الذي يستطيع أن يُحدث أثرًا ملموسًا، قابلاً للقياس ومستدامًا، في واحدةٍ على الأقلّ من الساحات الثلاث التالية لدى المخاطَب:

  1. التغيير في «المعرفة»: أي هل اكتسب المخاطَب بعد هذا البرنامج رؤيةً جديدةً وأعمق تجاه الموضوع المطروح؟
  2. التغيير في «الاتّجاه»: أي هل طرأ تحوّل على منظومة ميوله ونفوره، واهتماماته وهمومه، على ضوء ما قُدِّم له؟
  3. التغيير في «السلوك»: أي هل أسفر هذا البرنامج عن خطوةٍ عمليّةٍ ـ ولو بسيطة ـ في مسار حياته العمليّة؟

ضرورة تصميم البرامج بمنهجية قائمة على الأثر

كما شدّد على أنّه للخروج من دائرة «الأنشطة العقيمة وضعيفة الأثر»، لا بدّ من تعريف كلّ إجراءٍ أو برنامجٍ ثقافي ضمن دورة حياة رباعية المراحل، مُحكَمة التصميم ومهندسة بوضوح.

فالمرحلة الأولى تتعلّق بالتصميم القائم على «هدفٍ مؤثّر»؛ أي إنّه ينبغي، قبل الإقدام على أيّ عمل، أن نسأل أنفسنا: ما التغيير الملحوظ الذي نريد إحداثه في المخاطَب في ختام هذا البرنامج أو المشروع؟ ومن البديهي أنّ هذا الهدف المؤثّر يجب أن يكون منذ البداية واضحًا، محدّدًا، وقابلاً للقياس.

وأضاف هذا الناشط والباحث الثقافي أنّ المرحلة الثانية تتمثّل في تنفيذ «عملٍ متقن واحترافي»، ولا سيّما أنّ ذلك يُعدّ من أهمّ التوصيات التي يؤكّد عليها سماحة قائد الثورة الإسلامية ـ دام ظلّه ـ في خطابه للناشطين والقائمين على البرامج الثقافية في البلاد. ومن جهةٍ أخرى، ينبغي الالتفات إلى أنّ إنتاج وتقديم منتجٍ ثقافي ضعيف، مرتجل، وغير مهني، يُعدّ أكبر دعايةٍ سلبية لجبهة الحق، ويُشبه في حقيقته إهانةً لوعي المخاطَب، فضلًا عن كونه ـ بلا شكّ ـ يُخلّف آثارًا عكسيّة.

أهمية استمرار الاتصال المؤثر مع جمهور الأنشطة الثقافية

وأشار إلى أنّ المتابعة الذكية وإقامة التواصل تُعتبر المرحلة الثالثة في هذه العملية، موضحًا أنّ الانتباه لهذه المرحلة أمر بالغ الأهمية، إذ إنّ التأثير المستدام هو ثمرة ونتيجة الاتصال المستمر. ومن هذا المنطلق، ينبغي منذ البداية تصميم وتنفيذ آليات للحفاظ على التواصل مع الجمهور الذي تمّ استقطابه وتعزيزه. ويمكن أن تشمل هذه الآليات من مجموعة افتراضية نشطة لاستمرار النقاشات، إلى حلقات دراسية صغيرة، وكذلك تحديد مشاريع عملية مشتركة.

وأضاف سپاهي أنّ المرحلة الرابعة هي: «قياس الأثر» الصادق وإعادة الهندسة، بمعنى أنّه يجب أن نرجع بشجاعة إلى نقطة البداية، وبأدوات قياس محددة، سواء عبر استبيانات معمّقة أو مقابلات، أو عبر مراقبة تغيّر السلوك وتحليل تفاعلات الجمهور في الفضاء الرقمي، ونسأل أنفسنا: هل تمكّنا من الوصول إلى الهدف المؤثّر الأولي؟ وإذا كان الجواب سلبيًا، فما الأسباب والسياقات التي حالت دون ذلك؟

*ترجمة مركز الإسلام الأصيل

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل