آية الله جوادي آملي يحدد شروط فاعلية الفن: العقلانية والتدبير والأثر العملي

نشرت وكالة أنباء حوزه نص الرسالة المصورة لسماحة أية الله العظمى جوادي آملي إلى الدورة العاشرة لمهرجان الفن السماوي، وجاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

أتفدم بخالص الشكر والتقدير إلي جميع الذين بذلوا الجهود في تنظيم الدورة العاشرة لمهرجان الفن السماوي، وأسال الله العلي القدير أن يوفق الجميع لإحياء المعارف الإلهية الصادرة عن الذات المقدسة للحق تعالى.

لقد وفر هذا المهرجان فرصة ثمينة لربط الفن بالروحانية، واظهر أن الفن لا يمكن أن يكون مؤثرا ومقبولا على نحو حقيقي إلا إذا توفرت فيه جملة من الخصائص الأساسية. فالفن ينبغي أن يقوم على أساس عقلي وفكري رصين ليكون في المستوى الإنساني، وليقود المتلقي إلى التأمل والبصيرة. ومن دون العقلانية، قد يبدو الفن جذابا وممتعا، لكنه في حقيقته لا يتجاوز كونه تسلية أو مظهرا شكليا، ولا يحقق أثرا حقيقيا.

وإضافة إلى الجذور العقلية، ينبغي أن يخضع الفن في ورشة الاختيار والتدبير على ايدي أهل النظر لمعالجة دقيقة ومنهجية هندسية. فهذه المعالجة المنظمة تجعل العمل الفني لا يكتسب شكلا علميا ومنطقيا فحسب، بل يمتلك أيضا القدرة على التأثير العملي في المجتمع. أما إذا لم يخضع الفن لهذه الهندسة في ورشة الاختيار، فانه حتى لو كان قائما على أساس عقلي، سيبقى في حدود نموذج نظري علمي من دون أن يفضي إلى مخرج ملموس وقابل للتجربة.

أما الشرط الثالث فهو وجود مخرج محسوس ومؤثر. فالفن ينبغي أن يقدم للمجتمع نتاجا ملموسا قابلا للإدراك والتجربة. والفن الذي يكون عقلانيا ومهندسا، لكنه لا يترك أثرا محسوسا في المجتمع، لا يستطيع أيضا أن يحقق النتيجة المنشودة. ومن هنا فان الفن الأصيل لا يتحقق إلا بتكامل هذه العناصر الثلاثة معا: الجذر العقلي، والمعالجة الدقيقة في ورشة الاختيار، والمخرج المحسوس والجذاب في المجتمع.

ويكتسب الفن قيمته الحقيقية عندما يقترن بالولاية والروحانية، ويكون في أسلوب القول والسلوك والكتابة جذابا ومؤثرا. فهذا التكامل يجعل الفن مفسرا للعقلانية، ومحكوما بعملية خلق مدروسة، وقادرا في الوقت نفسه على أن يجعل المتلقي يشعر بتأثيره ويختبره. ومثل هذا الفن يكون منشأ للبركة الإلهية، ووسيلة لارتقاء المعرفة والقيم الإنسانية.

يتعلم الناس الفن بطرائق متعددة؛ فبعضهم يتعلمه عبر اللعب والتجربة العملية، وبعضهم عبر الجهد والممارسة المستمرة، وبعضهم الآخر عبر المعرفة العلمية الدقيقة. غير أن الفن لا يصبح مؤثرا بحق إلا عندما ينمو في المسار الصحيح، مع مراعاة آلأصول الإلهية والإنسانية.

إن أول ولي وقيم على العالم والإنسان هو الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي خلقنا وخلق العالم، وهو المرشد الحقيقي للإنسان. وكل فن يتشكل في هذا المسار الإلهي يمكن أن يكون مؤثرا ومصدرا للخير.

لقد دعا خالق العالم الإنسان إلى ثلاثة أصول أساسية، فإذا احسن توظيف هذه الأصول، ونميت في ورشة الفن والاختيار ألإنساني، كان الفن فنا مؤثرا. وهذه آلأصول الثلاثة هي: معرفة العالم، وتدبير العالم، وتجميل العالم.

فمعرفة العالم تعني الفهم العميق والصحيح للعالم وحقيقته. ومن يجهل العالم ونظمه، ولا يدرك محبته وفهمه، يكون علمه ناقصا، ومنقطعا عن الماضي والمستقبل معا. ومعرفة العالم تشمل معرفة خالقه، والاطلاع على مسار الحياة ومصير الإنسان.

أما تدبير العالم فيعني القدرة على الاستفادة من إمكانات العالم وادارتها إدارة صحيحة في طريق الخير والصلاح. ويرتبط هذا الجانب بالسياسة وعلم الاجتماع وتدبير الشان العام، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يوظف طاقات العالم وإمكاناته توظيفا سليما.

وأما تجميل العالم فهو القدرة على الخلق والإبداع، وعلى بناء العالم وتزيينه بصورة ينتفع منها الإنسان والمجتمع معا. وهذا هو البعد الفني للفن، حيث يستطيع الفن أن يضفي على العالم جمالا ونظاما وانسجاما.

ولا يتحقق الفن الكامل والمؤثر إلا بتوافر هذه الأصول الثلاثة مجتمعة: معرفة العالم، وتدبيره، وتجميله. وغياب أي واحد منها يؤدي إلى فقدان جانب من الفن؛ فأحيانا يضيع الأصل العلمي والفكري للفن، واحيانا أخرى تفقد قابليته على التأثير.

فالفن الذي يقوم على أساس عقلي، ويخضع للهندسة في ورشة اختيار أهل النظر، ويظهر في المجتمع بمظهر محسوس ومؤثر، هو فن مقترن بالولاية والروحانية، يوضح العقلانية، ويكون منشأ للبركة الإلهية، وقادرا على توجيه الإنسان والمجتمع نحو المعرفة والقيم الإنسانية.

إن الله سبحانه عرف نفسه بانه الحقيقة المطلقة وأعلي الموجودات، وهذا الاسم المبارك والفيضاني هو ذات الله تعالى وحقيقته، وقد أفاضه على الخالقين والأنبياء والأولياء. كما أن المؤمنين والفنانين الملتزمين يستفيدون في المسار الإلهي من هذه الحقيقة، فيكون فنهم ناقلا للمعرفة والإيمان إلى الآخرين.

ويمتلك الفن المتبادل قدرة على نقل الحقيقة إلى المتلقي من ثلاث زوايا. فعلى سبيل المثال، إذا تم تعليم أصول الهندسة الفراغية تعليما صحيحا، اصبح فهم مفاهيمها المعقدة ايسر بكثير. ففي السابق لم تكن هناك في كثير من الحالات وسائل واضحة للتقسيم واتخاذ القرار العلمي، وكانت المفاهيم المعقدة عسيرة النقل. فعندما كان الأستاذ يتحدث عن الكرة أو المكعب، كان الإدراك محدودا، أما بعد التقسيم والتعليم الدقيق لأصول الهندسة الفراغية، فقد أصبحت هذه المفاهيم مفهومة وسهل تعلمها.

وكذلك فان أشخاصا كالشهداء سعوا من خلال تضحياتهم الى نقل التعاليم والمفاهيم والأسرار المعرفية والأخلاقية إلى الناس عبر الفن والمجتمع الفني. وقد اثبتوا بأرواحهم وانفسهم أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتربية، ولنقل القيم، ولنشر الوعي في المجتمع، وغرس الرسالة الإلهية والإنسانية في قلوب وعقول المتلقين.

وعندما يبلغ الفن هذا المقام المعرفي والإلهي، فانه لا يكون جميلا وجذابا فحسب، بل يصبح مؤثرا ومصدرا للبركة في المجتمع، وقادرا على توجيه الناس نحو الحقيقة والفضيلة والكمال.

يمتلك الفن قدرة خاصة على توجيه السلوك والكلام والمشاعر، وعلى إحداث تحول في روح المجتمع. فإذا كانت الولاية بمعنى أن ذوات الأشخاص المدبرين والمؤثرين فاعلة، أو أن الأنبياء والأولياء يقودون المجتمع، أو أن الحكمة والولاية ألإسلاميه في حالة تفاعل متبادل، فان ذلك يسهم في نشر الدين وارتقاء القيم الإنسانية في المجتمع. فالإنسان العاقل والفنان، من خلال تجميل العالم والتدبير، يستطيع أن يترك أثرا عميقا في ثقافة المجتمع وسلوكه.

فالإنسان الواعي المقترن بالفن يكون سلوكه وكلامه ونظرته جذابة ومؤثرة. وإذا انتفع المجتمع ببركات الفن، فإنّ كتاباته وأقواله وإنتاجه الإعلامي لن يؤثر في وسائل الأعلام فحسب، بل في قلوب الناس وعقولهم أيضا. فالفن قادر على بث روح جديدة في المجتمع، وقيادة الناس نحو الفضيلة والمعرفة والحقيقة.

لقد قدم الله سبحانه في قضايا التوحيد والوحي مخططا دقيقا وروحا وحيانية جديدة، وقد جسد كبار العارفين والفنانين، كمولوي، نماذج من الفن والمعرفة الإلهية في آثارهم.

والفن الحقيقي هو الذي يقود الإنسان نحو نور الهداية الإلهية؛ فمن خلال الفن يستطيع الإنسان، كالمتقين الكاملين، أن يعيش تجربة الجمال والحقيقة، وكأنه ينظر إلى الجنة أو يعتبر من النار، فيتغير قلبه وروحه.

ويمتلك الفن الحقيقي القدرة على دفع الإنسان إلى التفكير، وتحويل طاقاته الكامنة إلى طاقات فاعلة. فالذين أدركوا الفن الإلهي لا يسيرون هم وحدهم في طريق الهداية والمعرفة، بل يقودون غيرهم أيضا نحو الحقيقة والجمال، ويكون اثر فنهم دائما باقيا ومباركا.

وإن مشاهدة شدائد الأيام تعني أن الفن في جوهره يوجه الإنسان لمواجهة حقائق الوجود والمصير الإلهي، ويعينه على التأمل واستخلاص العبر فمن يمتلك فنا الهيا ساميا يتعامل مع الشدائد والأحداث بعلم ويقين وشهود عرفاني، ولا يكتفي بظواهر الأمور، بل يدرك حقيقة الجنة والنار، ويتعلم من التجارب السهلة والصعبة، ويبصر الحقائق ببصيرة ومعرفة، ويكشفها للآخرين.

وهذا اللون من الفن فن رفيع وإلهي لا يناله كل احد، وهو فوق القدرة الاعتيادية للناس، غير أن الفن المتوسط أيضا قادر على تحقيق التماسك الاجتماعي، وعلى توجيه الناس في ظل لطف وهداية الأولياء الإلهيين نحو الفضيلة والحقيقة.

ونسال الله تعالى أن يحفظ نظام المجتمع، وجهود الفنانين، والأساتذة، والأئمة، والشهداء، وكل المخلصين في إيزان الإسلامية، وأن يصونهم من كل سوء. اللهم أفض عليهم عنايتك ولطفك، واجعل طريق الفن والمعرفة وخدمة الإنسان طريقا دائما للبركة والهداية.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل