إن ما ظل غريبًا يوم الغدير لم يكن ولاية أمير المؤمنين(ع)، بل قبلها وأهم منها كانت ولاية رسول الله(ص) هي الغريبة، وهذا أمر من المؤسف جدًا أن نعترف بأنه كان ذا سابقة ولم يكن جديدًا.
الغدير تجلّت فيه الولاية العظمى
تستحق واقعة الغدير السماوية والكبيرةِ الأهمية أن تُتناول بالدراسة والنظر من جهات مختلفة وأبعاد شتّى. لكن يبدو لي أن ما ينبغي الاهتمام به قبل غيره من هذه الأبعاد هو أن الغدير كان موضعًا لتجلّي ولاية رسول الله(ص) العظمى قبل أن يكون محلًا لإعلان ولاية أمير المؤمنين(ع) ووصايته. وبعبارة أخرى: لقد مثّلَ الغدير نقطة مَحَكّ مهمة لطاعة الناس في ما يتصل بولاية النبي(ص) أكثر منه محَكًّا لقبول ولاية الإمام علي بن أبي طالب(ع).
فإن أردنا في مثل هذا اليوم التوقف عند غربة وصي رسول الله(ص) فلا بد لنا قبل ذلك من التوقف عند غربة الرسول(ص) نفسه؛ والتي هي نتيجة ذلك الاختبار العظيم. إذ يتوجب – في الواقع – أن نقول: لقد جسّدَ يومُ الغدير أساسًا ذروة الغُربَة لولاية النبي الأعظم(ص) قبل أن يعلن بداية غربة أمير المؤمنين(ع).
وأهم وثيقة على هذا المُدَّعى هو كلام رسول الله(ص) المحوري نفسه في خطبة الغدير إذ قال في ما روي عنه: «أَلا مَن كُنتُ مَولاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَولاه» (تفسير القمي/ ج1/ ص174)؛ حيث قد أكد بدايةً على ولايته هو(ص) قبل التصريح بولاية علي(ع). ومُؤدَّى هذا الكلام هو أن كل من لم يقبل ولاية رسول الله(ص) فمن الطبيعي أنه لن يقبل ولاية علي بن أبي طالب(ع).
فإن النبي(ص) بقوله: «من كنت مولاه» كان – في واقع الأمر – قد سأل الناس بدايةً: “من يقبل بي مولًى؟” و: “من هو أحقّ منكم بأنفسكم؟” فالاختلاف إنما كان قائمًا حول هذه النقطة بالذات، بل وقد بقي هكذا بالمناسبة؛ أي حول ولاية رسول الله(ص).
فعوضًا عن أن يتولى الله تعالى بنفسه التصريح بولاية أمير المؤمنين(ع) ووصايته في آية من القرآن الكريم فقد أَوكَل هذه المهمة، وهي تقديم علي(ع) وليًّا، إلى نبيه الكريم(ص). صحيح أن النبي الأعظم(ص) لا ينطق إلا بأمر من الله عز وجل؛ وذلك لقوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (النجم/ الآيتان 3-4)؛ إلا أنه قد يصرَّح – أحيانًا – بأوامر الله في القرآن الكريم بشكل مباشر ويكون على النبي(ص) أن يقرأها للناس، ثم يشرحها لهم في النهاية، لكنه لا بد لهذه الأوامر – أحيانًا أخرى – من أن تُبَلَّغ إلى الناس من خلال النبي(ص) فيسمعها الناس من لسانه؛ كما كان معمولًا به بخصوص تفاصيل بعض الأحكام ومصاديق البعض الآخر من الأوامر الإلهية، ولم يكن هذا الأسلوب – عمومًا – غريبًا على الناس.
فإن الله عز وجل كان – في الحقيقة – قد أمر رسوله(ص): “بما أنه من الواجب على الناس طاعة أمرك، وبما أن طاعتك هي من طاعتي فمُرْهُم أنت أن يقبلوا ولاية علي بن أبي طالب(ع)”. أي: لقد أراد الله تبارك وتعالى أن يُبَلَّغ حُكم ولاية أمير المؤمنين(ع) ووصايته عن طريق النبي(ص). وقد شكّل هذا الأسلوب في إبلاغ هذا الأمر – مع كل ما كان يكتنف هذه القضية من حساسية آنذاك – أرضيةً لامتحان عظيم للناس في مدى امتثالهم أوامرَ رسول الله(ص).
في ما يتصل بأنه: ما الحكمة أساسًا من أن الله سبحانه وتعالى قد قسّم معارف الدين وأحكامه إلى قسمين، فصرّح بقسم منها بنفسه في كتابه العزيز، وعَهِدَ بقسمها الآخر إلى نبيه الكريم(ص) ليتولى هو مهمة بيانها وإنشائها، فهذا موضوع في غاية الأهمية ويستحق الوقوف عنده ومناقشته لكن في محله الخاص. ثم إنه: لماذا جعل إعلان وصاية علي بن أبي طالب(ع) وإمامته في القسم الثاني منها حيث يتعيّن على النبي(ع) نفسه أن يبلغها للناس مباشرة؟ فهذا موضوع لافت آخر ينطوي على أسرار جمة ولا ينبغي المرور عليه مرور الكرام، ولا بد من الوقوف عنده في فرصة أخرى.
عيد الغدير – إذن – هو عيد ولاية إمامين؛ الإمامة والولاية العظمى لنبي الإسلام(ص) التي تجلّت بذروتها في هذا اليوم، ثم إمامة أمير المؤمنين(ع) التي أُعلنت للناس كافة. فإننا في الحقيقة نحتفل بعيد الغدير لسببين: أولهما هو التجلي الأسمى لولاية رسول الله(ص)، وثانيهما هو الإعلان الرسمي الأوسع لولاية علي ولي الله(ع).
ولاية الرسول الأعظم(ص)
قد يبدو مصطلح “ولاية رسول الله(ص)” غير مألوف نوعًا ما، لأن مفهوم الولاية عند المؤمنين يوحي عادةً بمعنى ولاية الأئمة المعصومين(ع). لكننا نعلم أن أنبياء الله(ع) عمومًا، والنبي الخاتم(ص) خصوصًا كانوا يتمتعون بمقام الإمامة. ففي قول رب العزة: «ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ» (النساء/ الآية64) إشارة لمقام الولاية هذا بالضبط. وحين يأمر الله مرارًا بطاعة آخِرِ رُسُله إلى جانب طاعته هو تعالى قائلًا: «أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول» (النساء/ الآية59) فإن في ذلك تصريحًا مستقلًا بولاية رسول الله(ص).
هذا وقد صرح النبي الأعظم(ص) بأمر ولايته هو قبل بيان حكم ولاية علي بن أبي طالب(ع) إذ قال في ما روي عنه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَن وَلِيُّكُم وَأَوْلَى بِكُم مِن أَنفُسِكُم؟ فَقالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: مَن كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ وَعادِ مَن عاداهُ ثَلاثَ مَرَّات…» (الكافي/ ج1/ ص295).
والمراد من “ولاية رسول الله(ص)” هو أن بمقدوره أن يوجّه الأوامر لنا، وأن ضرورة امتثالنا لأوامره(ص) توازي ضرورة امتثالنا لأوامر الله عز وجل. فإنّ له(ص) الخيار في أمرنا، ولقد أُوكِلت إليه مسؤولية إدارة شؤون حياتنا. إذن فمن حقه أن ينصب من بعده إمامًا حتى وإن لم يأمره الله تعالى بذلك صراحةً أو أنه مَن ذا الذي ينبغي نصبه؟ هذا على الرغم من أن ما أُعلن يوم الغدير كان وفق أمر مؤكَّد ومعلوم من الله عز وجل، وقد صرح رسول الله(ص) بهذا الأمر مرارًا وتكرارًا.
أكان تأكيد القرآن على ولاية النبي(ص) أم ولاية خلفائه؟
السبب الأهم في اشتهار قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم» (النساء/ الآية59) بين المؤمنين على أنه إشارة إلى ولاية الأئمة المعصومين(ع) هو وجود لفظة “أولي الأمر” فيه، ولقد انْصَبّ اهتمامنا أكثر ما انصب على دلالة ولاية “أولي الأمر” وتحديد مصداق ذلك في كلام رسول الله(ص)، وهو ضروري في محله. لكنه من الضروري، في ذيل هذه الآية الكريمة، الاهتمام بطاعة رسول الله(ص) قبل التطرق إلى لزوم طاعة أولي الأمر.
تكررت كلمة “أطيعوا” في الآية الكريمة مرتين؛ مرة قبل لفظ الجلالة “الله”، ومرة قبل لفظة “الرسول” المباركة، مع أنه كان يمكن، من خلال عطف “الرسول” على “الله”، الإتيان بكلمة “أطيعوا” مرة واحدة فقط، لا بل عطف الكلمات الثلاث إحداها على الأخرى بعد الإتيان بـ”أطيعوا” واحدة.
أما أن يقول مرة: “أطيعوا الله” ثم يقول ثانية: “وأطيعوا الرسول” فهذا مؤشر على تأكيد الله تعالى الخاص على طاعة الرسول(ص) ودليل على أن طاعة رسول الله(ص) لم تكن مهضومة تمامًا بين الناس آنذاك!
وكأنّ الله جل وعلا يقول للناس: “يريد نبِيّي أن يوجّه إليكم كلامًا لم يُذكَر بشكل صريح في القرآن الكريم، ولا يُعَد أمرًا مباشرًا مني. لكن بما أن النبي(ص) لا يقول شيئًا من منطلق الهوى، وكل ما يقوله هو ما يوحى إليه تمامًا؛ «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (النجم/ الآيتان 3-4) فإنه يجب إطاعة أوامره كأوامري بالضبط”. إذن فقد جاء تأكيد القرآن الكريم في هذه الآية من أجل توجيه البوصلة إلى طاعة الرسول(ص). وهذه هي الحقيقة تماما؛ فلو كان الناس قد أطاعوا رسول الله(ص) طاعة كاملة لما قام نزاع من بعد على طاعة أولي الأمر، وتعيين مصاديقهم، وإخفاء أوامر النبي(ص) الصريحة.
إذن فإن ما ظل غريبًا يوم الغدير لم يكن ولاية أمير المؤمنين(ع)، بل قبلها وأهم منها كانت ولاية رسول الله(ص) هي الغريبة، وهذا أمر من المؤسف جدًا أن نعترف بأنه كان ذا سابقة ولم يكن جديدًا. فالذين كانوا يسألون رسول الله(ص) علانية، أيام حضوره وحكمه إذا صدرَ منه أمر: «هذا شَيْءٌ مِنكَ أَم مِنَ الله» (مناقب آل أبي طالب(ع) لابن شهرآشوب/ ج3/ ص40) من الواضح أنهم كيف سيتعاملون مع أوامره من بعده.
إشارات القرآن وتصريحاته في ما يرتبط بغربة النبي(ص) ولائيًّا
من المهم أن نعلم أن شخص النبي(ص) لم يكن غريبًا، بل كان آنذاك في ذروة شهرته ومحبوبيته ونفوذه الاجتماعي. الذي كان غريبًا حينها هو شخصيته الولائية؛ أي إنه قلما كان يُتَّبَع بصفته رسولًا مفترَض الطاعة وأن له الولاية على الناس. بل إن شخصيته النبوية لم تكن هي الأخرى غريبة، فلطالما سألوه حين يطرح(ص) أمرًا دينيًّا فيما إذا كان هذا الكلام من عند الله أم إنه كلامك أنت، ومثل هذا السؤال كان – بحسب ما ينقل التاريخ – شائعًا نوعًا ما آنذاك، وهو دليل على الادعاء القائل بأن بعض الناس كانوا يميّزون بسهولة بين أمر الله تعالى وأمر رسوله(ص). على أن المسألة لم تنته إلى هذا الحد، بل لكثرما كانوا يناقشون النبي(ص) ويجادلونه ويصرّون عليه لتغيير رأيه.
ومن المناسب هنا أن نستشهد بآية من الذكر الحكيم دليلًا على غربة رسول الله(ص) ولائيًّا، وهو قوله تعالى: «وَإِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا» (النساء/ الآية61). لكن لماذا لم يكونوا يصدّون عما أنزل الله، ولو في الظاهر، لكن كانوا يصدّون عن طاعة الرسول(ص)، فهذا موضوع مهم ولافت.
مرض المنافق هو أنه يقول: “لا مشكلة لنا مع كتاب الله، مشكلتنا هي مع كلام رسول الله(ص)!” والنتيجة هي أنه لا يصد عما أنزل الله تعالى، لا بل قد يدعو الناس إلى تلاوة القرآن أيضًا، لكنه – بحسب التعبير القرآني – يُعرض عن طاعة النبي(ص).
إن عظمة ولاية النبي الأعظم(ص) وغربتها هي من الجسامة، وإن كلام القرآن الكريم عنها هو من الكثرة ما لم يُبقِ مجالًا للتطرّق علانية لولاية أمير المؤمنين(ع). وفي واقع الأمر إن الله تبارك وتعالى بحديثه عن ولاية النبي(ص) قد تحدث عن ولاية لو أنها لم تُجابَه بالظلم والإنكار لكانت ولاية أمير المؤمنين(ع) قد قُبلَت بكل سهولة وما كان أُثيرَ حولها لَغَط.
بقلم الشيخ علي رضا بناهيان.