السيرة: هي الطريقة والاُسلوب. وحسنها: يقصد به حُسن سيرة الإنسان في حياته، وطريقة معاشرته مع أهله وأولاده وأقربائه وأصدقائه، في بيته ومجتمعه.
فاُسلوب المتّقي والصالح يكون اُسلوباً طيّباً حسناً في جميع مجالات حياته، فيكون له حلية وزينة.
وقد رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (حُسن السيرة عنوان حسن السريرة).
فإنّ حُسن سيرة الإنسان مظهرٌ لحُسن باطنه وروحه.
فإذا كان الشخص حسن الباطن حسنت سيرته..
فيكون حسن سيرته كاشفاً عن حسن باطنه..
ومن مكارم أخلاق الصُّلحاء والأتقياء أن تكون سيرتهم في حياتهم حسنة مع جميع من يعيشون معه من بني نوعهم.
بل حتّى مع الحيوانات التي يلزم الإرفاق بها ومراعاتها. فإنّ الإسلام جعل أحكاماً وحدوداً حتّى بالنسبة إلى الحيوانات..
وبنى على الرفق حتّى في غير البشر.
ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ـ (للدابّة على صاحبها ستّ خصال: يبدأ بعَلفِها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مرّ به، ولا يضرب وجهها فإنّها تسبِّح بحمد ربّها، ولا يقف على ظهرها إلّا في سبيل الله عزّ وجلّ، ولا يحمّلها فوق طاقتها، ولا يكلّفها من المشي إلّا ما تُطيق)([1]).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال عليّ بن الحسين لابنه محمّد (عليهم السلام) حين حضرته الوفاة: إنّي قد حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجّة، فلم أقرعْها بسوطٍ قرعة، فإذا نفقَت ـ أي ماتت ـ فادفنها لا يأكل لحمها السباع)([2]).
هذه هي السيرة الحسنة، والطريقة المستحسنة في الحياة، وفي أسلوب المعاشرات.. حتّى مع البهائم والحيوانات، فكيف بالمعاشرة مع الناس، خصوصاً المؤمنين، خصوصاً الأرحام والأقربين.
فيلزم علينا تحسين السيرة قولاً وعملاً مع الآخرين، حتّى التكلّم بهدوء لا بصياح، والنظر بلطف لا بشَزَر.
وهذه السيرة الطيّبة من مكارم أخلاق المؤمن الصالح التقيّ، ومن مقوّمات صلاحه وتقواه، وممّا يدلّ على حُسن باطنه وطيب نفسه.
والمدرسة العليا لهذه السيرة هي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والمَثَل الأعلى لهذه السجيّة هم النبيّ والعترة صلوات الله عليهم أجمعين. ولذلك تلاحظ:
1 ـ إنّ القرآن الكريم يمدح الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)([3]).
2 ـ والرواية الشريفة تفسّر سيرته صلوات الله عليه بأنّه: (كان يخدم في أهله، ويُجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على كراع، ويشيّع الجنازة، ويعود المرضىٰ، ويُجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده المباركة، ويبدأ بالسلام، ويبدأ المسلمين بالمصافحة، ويكرم الداخل عليه، وربما بسط له ثوبه ليجلس عليه، ويُؤثِر على نفسه فيكرمه بالوسادة، وما جفا على أحدٍ قطّ)([4]).
3 ـ والحديث يذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّه حينما يشتري ثوباً يشتري ثوبين، يعطي أجودهما لقنبر ويختار دونه لنفسه([5]).
ويُوصي بالإرفاق حتّى عند شهادته بالأوز التي كانت في بيته، واُهديت للحسنين (عليهما السلام).
وقد جرىٰ شيعتهم الأبرار على سيرة قدوتهم الأطهار، في معاشراتهم الحسنة، وعدم تعاليهم على الناس.
كالذي يُنقل عن المرحوم المحدِّث القمّي (قدس سره) أنّه في أحد أسفاره من العراق إلى خراسان لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، رافقه في السيّارة الحافلة بعض القرويّين الذاهبين إلى الزيارة أيضاً. والمحدّث القمّي بالرغم من كونه آيةً في العلم والتقوى والحديث والمعارف، لم يكن يتظاهر بالعظمة، ولم يتفوّق على اُولئك المسافرين، بل كان يعاشرهم كأحدهم.
فكان اُولئك في طيلة الطريق يطلبون من الشيخ أن يشتري لهم الخبز والفاكهة وغير ذلك، ظنّاً منهم أنّ الشيخ كسائر الناس العاديّين.
والشيخ أعلى الله مقامه كان يشتري لهم ما يريدون، وهم مستريحون في مكانهم، لا يتكلّفون بشيء، ولا يُتعبون أنفسهم بعمل.
وتمّ المسير وانتهى سير السفر على هذا المنوال، وهذه الطريقة..
وفي خراسان بعد أن وصل اُولئك وزاروا الإمام الرضا (عليه السلام)، ذهبوا لزيارة المرجع الديني السيّد حسين القمّي (قدس سره) الذي كان آنذاك مقيماً في مشهد الرضا (عليه السلام)، فسلّموا على السيّد، وجلسوا في طرف المجلس، والمجلس غاصّ بأهله.
وبينما هم كذلك إذ رأوا أنّ السيّد القمّي قام من مكانه، وقام معه جميع أهل المجلس لاستقبال شخص ورد إلى المجلس، فاستقبلوه بكلّ حفاوة وتكريم واحترام.
ونظر هؤلاء إلى ذلك الشخص الوارد، فإذا هو نفس صاحبهم في السفر الذي كانوا يكلّفونه الشراء والخدمة، فيخدمهم بكلّ رغبة، ويعاشرهم بأحسن سيرة.
فاعتذروا منه كثيراً على ما سلف منهم، لكنّه قال لهم إنّه لا داعي للاعتذار؛ لأنّه كان ما سلف من الخدمة لهم هو ما ينبغي له وحثّ الشارع المقدّس عليه، في آداب السفر، واُمور الطريق.
هذا نموذج من حسن السيرة الذي يلزم أن يكون عليه جميع الناس.. خصوصاً أصحاب العلم، وأصحاب الوجاهة، وأصحاب المقامات..
وقد كان علماؤنا الأبرار على أحسن سيرة، وأحسن طريقة، مع المؤمنين والمعاشرين.
من ذلك ما حكي عن المرحوم كاشف الغطاء الكبير تلميذ السيّد بحر العلوم، واُستاذ صاحب الجواهر، صاحب المقام العلمي الشهري، والدرجة المرجعيّة المعروفة، حيث لُقِّب بشيخ الفقهاء، ورئيس الإسلام، لتضلّعه وإحاطته بفقه الإسلام وأحكام الشرع.
حكي عنه (قدس سره) أنّه تأخّر يوماً عن صلاة الجماعة التي كان يُقيمها ظهراً في أحد المساجد الشريفة في النجف الأشرف.
واستوجب هذا التأخير أن يقوم كلّ واحدٍ من المصلّين المأمومين فيُصلّي صلاة الظهر فرادىٰ، لأنّهم يئسوا عن مجيء الشيخ.
وفجأةً دخل الشيخ كاشف الغطاء إلى المسجد، ورأى جمعاً من المأمومين يصلّون فرادىٰ..
فقال للباقين: أما كان فيكم رجلاً موثوقاً تصلّون خلفه؟!
ثمّ التفت الشيخ إلى أحد التجّار الذي كان رجلاً صالحاً موثوقاً، وكان هو أيضاً يُصلّي صلاة الظهر، فاقتدى به الشيخ واقتدى به الباقون كذلك.
والتفت ذلك التاجر بعد الصلاة أنّ الشيخ اقتدىٰ به فخجل كثيراً، وعرق من الخجل.
لكن الشيخ قال له: قُم فصلِّ العصر لنقتدي بك أيضاً.
فأبى ذلك التاجر، فكان من الشيخ الإصرار على ذلك، ومن التاجر الاستعفاء منه، حتّى انتهى الكلام بأن قال له الشيخ: اختر أحد اثنين: إمّا أن تصلّي بنا العصر، وإمّا أن تعطي مقداراً من المال للفقراء.
فتقبّل التاجر إعانة الفقراء، وأعفاه الشيخ عن صلاة الجماعة لتقبّله عمل الخير وعون المؤمنين، فقام هو وصلّى في المحراب([6]).
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، السيد علي الحسيني الصدر
([1]) الخصال / ص 330 / باب الستّة / ح 28.
([2]) الوسائل / ج 8 / ب 51 / من أحكام الدوابّ / ح 1.
([3]) سورة آل عمران: الآية 159.
([4]) بحار الأنوار / ج 16 / ص 226.
([5]) بحار الأنوار / ج 41 / ص 102.
([6]) لاحظ: الكنى والألقاب / ج 3 / ص 83