الدعاية اليزيدية جمعت كيدها وحصرت همّها من أجل قلب الحقائق الناصعة، التي دفعت بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى إعلان ثورته، فقد اتبعت هذه الدعاية المغرضة وسيلة للتضليل الديني، فأخذت تعزف على نغمة: أن الحسين قُتل بسيف جدّه([1])، بدعوى أنه فرّق الأمة وخلق الفتنة، ويريد هؤلاء من هذا الإدعاء بأن ما لاقاه الحسين (عليه السلام) من قتل وابتلاء هو من صنع اللّه!. .هذا المنطق الذي يطمس الحقائق بصورة صارخة، قد ظهر جليّا من خلال خطب الطاغية يزيد وواليه ابن زياد سواء في الكوفة أو الشام.
يقول المؤرخون: «جلس ابن زياد في القصر الأميري وأذن للناس عموما، وجيء برأس الحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، واُدخل نساء الحسين (عليه السلام) وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت علي (عليها السلام) متنكرة، فسأل عنها فقيل: زينب بنت علي (عليها السلام)، فأقبل إليها، فقال: الحمد للّه الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع اللّه بأخيك وأهل بيتك؟ ـ لاحظ التزييف الديني، فقد نسب ما اقترفته يده الآثمة إلى اللّه! ـ فقالت: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم»([2]).
والآن فلنترك الكوفة ونذهب إلى الشام، فنجد يزيد قد وضع رأس الحسين (عليه السلام) أمامه، وجعل ينكث ثنايا الحسين (عليه السلام) بقضيب خيزران!.. أثار هذا الموقف زينب (عليها السلام) حينما لم تجد أحداً يردّ عليه، فوقفت تقذفه بحمم الحق، ووضعت الأمور في نصابها الصحيح، فقالت له ضمن ما قالت: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تُساق الأُسراء أن بنا هوانا على اللّه وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوثقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، أنسيت قول اللّه تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)([3])»([4]).
ثم دعت الناس ـ ضمنيا ـ إلى التقييم السليم للمواقف والأشخاص من خلال التفريق بين أولاد الأنبياء وأبناء الطلقاء أقرأ المقطع الآخر من هذه الخطبة البليغة، الذي وجّهت فيه زينب (عليها السلام) سياط كلماتها إلى الطاغية يزيد، فذكّرته بأنه من أبناء الطلقاء الذين أطلقهم الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة. . قالت له: «أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدني والشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ولا من حماتهنّ حمي! وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأولياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! ـ إلى أن تقول ـ: ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء..»([5]).
وتجدر الإشارة إلى أن علي بن الحسين (عليهما السلام) قد قام بدور إعلامي كبير، فضح فيه أسلوب التضليل ووضع النقاط على الحروف، فدحض أباطيلهم وأظهر بلسان الحال والمقال زيفهم ونفاقهم.
ولسبايا أهل البيت دور في كشف الحقائق، فمن المعروف أن كلّ ثورة تستلزم ساعدا ولسانا، ودما ورسالة، عملاً وإعلاما. وخطب زينب والسجاد (عليهما السلام) والبقية الباقية من واقعة كربلاء أثناء سبيهم، كان لها دور مهم في فضح حقيقة العدو وإفشال إعلامه الكاذب، وتوعية الناس على حقيقة الثورة وماهية شخصية أبي عبد اللّه (عليه السلام) وشهداء الطف، وهذا ما جعل الأمويين عاجزين عن إسدال الستار على جرائمهم أو محوها من الأذهان.
بقي علينا أن نشير إلى أن الرأي العام الإسلامي قد انقلب ضد الاُمويين بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن تبين للداني والقاصي زيف وخداع البراقع الدينية التي تستر بها هؤلاء من أجل خداع الآخرين، علما بأن أنصار الحسين (عليه السلام) قد اكتشفوا بصورة مبكرة زيف الدعاية اليزيدية، فقد خاطب نافع ابن هلال الجملي شمر بن ذي الجوشن القائد اليزيدي بهذه الكلمات المعبّرة: « أما واللّه أن لو كنت من المسلمين لعظُم عليك أن تلقى اللّه بدمائنا، فالحمد للّه الذي جعل منايانا على يدي شِرار خلقه»([6]).
جدير بالذكر أن التزييف المذكور وقلب الحقائق لم يكشفه أنصار الحسين (عليه السلام) فحسب، بل تعداهم بعد ذلك إلى سائر المسلمين، وخاصة في الكوفة والشام، وذلك بعد أن تبين للمسلمين بأن الدّين مجرد مضغة بين أسنان اليزيديين يلوكونها في إعلامهم من أجل البقاء في السلطة، ولو استدعى الأمر إلى قتل عترة النبي وسبي حريمهم، ومن أجل ذلك عبَّر الرأي العام الإسلامي عن استنكاره وغضبه لتلك الجرائم البشعة، وشجبه لتلك الأساليب الخسيسة، ظهر ذلك في موقف زيد بن أرقم من أصحاب رسول اللّه عندما رأى ابن زياد ينكث ثنايا رأس الحسين (عليه السلام) حين وضعه أمامه في اُجانة، فصاح به مغضبا: «ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فواللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عليهما ما لا أُحصيه كثرةً تقبلهُما، ثمّ انتحب باكيا. فقال له ابن زياد: أبكى اللّه عينيك، أتبكي لفتح اللّه؟ ـ لاحظ التزيف ـ واللّه لولا أنّك شيخ قد خَرِفْتَ وذهب عقلك لضربتُ عنقك»([7]).
كما ظهر ذلك أيضا في موقف عفيف الأزدي الذي وقف كالجبل الشامخ، فردّ على ابن زياد الذي أراد أن يتظاهر بالحق ويقلب الحقائق عندما صعد المنبر بعد مقتل الحسين (عليه السلام) فقال: «الحمد للّه الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب، فقام إليه عبداللّه بن عفيف الأزدي فقال: يا عدوّ اللّه، إنّ الكذّاب أنت وأبوكَ، والّذي ولاّك وأبوه، يا ابن مرجانة، تقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصِّدِّيقين؟! فقال ابن زياد: عليَّ به، فأخذته الجلاوزة، فنادى بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمائة رجل فانتزعوه من الجلاوزة، فلمّا كان الليل أرسل إليه ابن زياد مَنْ أخرجه من بيته، فضرب عنقه وصلبه في السَّبخةِ (رحمه الله)»([8]).
كما انكشف الزيف اليزيدي لأهل الشام، يشهد بذلك أرباب المقاتل، فقد نقلوا «بأن شامياً نظر إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فقال ليزيد وكان مخدوعا به: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين.. فقال الشامي ـ وقد اتضحت له حقيقة الحال ـ: لعنك اللّه يا يزيد، أتقتل عترة نبيك، وتسبي ذريّته؟! واللّه ما توهّمت إلاّ أنهم سبي الروم. فقال يزيد: واللّه لألحقنّك بهم، ثم أمر به فضربت عنقه»([9]).
وهكذا انهار صرح الدعاية الأموية الذي بنته على جرف هارٍ من ترهيب وتكذيب ولعن وسباب واتهامات عارية عن الصحة، تعمل على قلب الحقائق وتزييف الوقائع.. وظهرت الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، وبقي ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه يملأ أسماع الدنيا بعد انقشاع الغبار الذي أثاره الإعلام المضاد الذي كان أشبه بسحابة تائهة تأتي لحظة لتغطي ضوء الشمس ثم تذهب سريعا لتعود الشمس بسطوعها وإشراقها.
أبعاد النهضة الحسينية، عباس الذهبي
([1]) انظر: خلاصة عبقات الأنوار / السيد حامد النقوي 4: 237، مؤسسة البعثة / قسم الدراسات الإسلامية، ـ 1406 ه. فيض القدير شرح الجامع الصغير / المناوي 1: 265، و5: 313، ط 1 ـ 1415ه، دار الكتب العلمية، بيروت.
([2]) الإرشاد / الشيخ المفيد 2: 115. ومثير الأحزان / ابن نما الحلي: 71، تاريخ الطبري 4: 349، البداية والنهاية / ابن كثير 8: 21، مقتل الحسين / أبو مخنف: 94.
([3]) سورة آل عمران: 3 / 178.
([4]) اللهوف: 105.
([5]) اللهوف: 106.
([6]) تاريخ الطبري 6: 239، حوادث سنة إحدى وستين.
([7]) الإرشاد 2: 114، الأمالي / الشيخ الطوسي: 252، المناقب 3: 261، فتح الباري شرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني 7: 75، دار المعرفة، بيروت ط 2، الأخبار الطوال / الدينوري: 260، تاريخ دمشق / ابن عساكر 41: 365، أسد الغابة / ابن كثير 5: 381.
([8]) الإرشاد / الشيخ المفيد 2: 117.
([9]) اللهوف: 108 ـ 109.