تمر علينا في الثّامن من ربيع الثاني سنة (232 هـ) من الهجرة النبوية الشريفة ذكرى الولادة المباركة للإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت، وهو الامام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في المدينة المنورة، وفي هذه المناسبة المباركة نهنئ الامام المهدي الموعود (عجل الله فرجه الشريف) وقائد الثورة الاسلامية والعالم الاسلامي، ونبتهل الى الله تعالى أن يجعلنا من السائرين على نهجه، أنه ولي التوفيق .
الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وبهذا يعتبر الامام الحادي عشر من ائمة أهل البيت (عليهم السلام) المعصوم الثالث عشر بعد رسول الله صلی الله عليه وآله .
نشأ الإمام العسكري (ع) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكبرى، ذلك البيت الذي أذهب الله تعالى عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيرا. لقد ظفر الإمام العسكري أبو محمد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله تعالى وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث (يسبّح له فيها بالغدو والآصال* رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله..) النور – اية 37. ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الارض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله تعالى.
أنّ أهم انجاز للإمام العسكري (ع) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي (عجل الله فرجه الشريف) من أيدي العتاة العابثين الذين كانوا يتربصون به الدوائر منذ عقود قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام (ع) بفضل جهود آبائه السابقين (عليهم السلام) وتحذيراتهم تنصب أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام (ع)، الى جانب إتمام الحجة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.
ففي مجال كتمان أمر الإمام المهدي (عج) عن عيون أعدائه فقد أشارت نصوص أهل البيت (عليهم السلام) الى أنه ابن سيدة الإماء[1] وأنه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه.
وفي هذه النصوص ثلاث إرشادات أساسية تحقق هذا الكتمان، أوّلها أنّ اُمّه أمة وهي سيدة الإماء وقد مهّد الإمام الهادي (ع) لهذه المهمة باختيار زوجة من سبايا الروم للإمام الحسن العسكري (ع) ولم تكن للزواج أية مراسم ولا أية علامة بل كل ما تحقق قد تحقق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين.
وقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام، فإنّ عمّة الإمام (ع) لم تتعرّف على حمل اُم الإمام المهدي (عج) فضلاً عن غيرها، ومن هنا كانت الولادة في ظروف سرّية جداً وبعد منتصف الليل، وعند طلوع الفجر وهو وقت لا يستيقظ فيه إلاّ الخواص من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.
وقد خطّط الإمام العسكري (ع) ليبقى الإمام المهدي (عج) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية ولم يطلع عليه إلاّ الخواص أو أخصّ الخواص من شيعته.
وأما كيفية إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة.
الخطوة الاُولى: النصوص التي جاءت عن الإمام العسكري(ع) قبل ولادة المهدي(عج) تبشيراً بولادته.
الخطوة الثانية: الإشهاد على الولادة .
الخطوة الثالثة: الاخبار بالولادة ومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاص من دون رؤية الإمام(عج).
الخطوة الرابعة: الإشهاد الخاص والعام بعد الولادة ورؤية شخص المهدي(عج) .
الخطوة الخامسة: التمهيد لرؤية الإمام المهدي(عج) خلال خمس سنوات من قبل بعض خواصّ الشيعة والارتباط به عن كثب وتكليفه مسؤولية الإجابة على اسئلة شيعته المختلفة وإخباره عمّا في ضميرهم وهو في المهد أو في دور الصبا من دون أن يتلكّأ في ذلك.
وهذا خير دليل على إمامته وانه حجة الله الموعود والمنتظر.
الخطوة السادسة: التخطيط للارتباط بالإمام المهدي(عج) بواسطة وكلاء الإمام العسكري(ع) الذين أصبحوا فيما بعد وكلاء للإمام المهدي(عج) بنفس الاُسلوب الذي كان معلوماً لدى الشيعة حيث كانوا قد اعتادوا عليه في حياة الإمام الحسن العسكري(ع).
الخطوة السابعة: البيانات والأحاديث التي أفصحت للشيعة عمّا سيجري لهم ولإمامهم الغائب في المستقبل وما ينبغي لهم أن يقوموا به.
ومن هنا نفهم السرّ في كثرة هذه النصوص وتنوّع موضوعاتها إذا ما قسناها الى نصوص الإمام الهادي(ع) حول حفيده المهدي(عج) ولاحظنا قصر الفترة الزمنية التي كانت باختيار الإمام العسكري (ع) وهي لا تتجاوز الست سنوات بينما كانت إمامة الهادي(ع) تناهز الـ (34) سنة ممّا يعني أنها كانت ستة أضعاف مدة امامة ابنه العسكري(ع).
الخطوة الاُولى:
لقد جاءت النصوص المبشّرة بولادة المهدي(عج) عن أبيه الإمام الحسن العسكري(ع) تالية لنصوص الإمام الهادي(ع) التي ركّزت على أنه حفيد الهادي(ع) وأنّه ابن الحسن العسكري(ع) وانّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه، وأنه الذي يقول الناس عنه أنه لم يولد بعد، وأنّه الذي يغيب عنهم ويرفع من بين أظهرهم وأنه الذي ستختلف شيعته الى أن يقوم، وعلى الشيعة أن تلتفّ حول العلماء الذين ينوبون عنه وينتظرون قيامه ودولته ويتمسّكون بأهل البيت(ع) ويظهرون لهم الولاء بالدعاء والزيارة وانه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين[2].
ونورد جملة من هذه النصوص المبشّرة بولادته:
1- روى الصدوق عن الكليني انّ جارية أبي محمد(ع) لمّا حملت قال لها: ستحملين ذكراً واسمه محمّد وهو القائم من بعدي[3].
2- روى في اثبات الهداة عن الفضل بن شاذان أن محمد بن عبدالجبار سأل الإمام الحسن (ع) عن الإمام والحجة من بعده فأجابه: إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله(ص) وكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه.
فسأله ممّن هو؟ فقال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، إلاّ أنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر[4].
3- روى الطوسي أن جماعة من شيعة الإمام الحسن العسكري(ع) وفدوا عليه بسرّ من رأى فعرّفهم على وكيله وثقته عثمان بن سعيد العمري ثم قال لهم: واشهدوا عليّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وانّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم[5].
4- وعن عيسى بن صبيح أنه حين كان في الحبس دخل عليه الإمام الحسن العسكري(ع) فقال له: لك خمس وستون سنة وشهر ويومان، وكان معه كتاب دعاء فيه تاريخ مولده ففتحه ونظر فيه واكتشف صدق الإمام(ع) ودقة خبره، ثم قال له الإمام(ع): هل رزقت ولداً؟ فأجابه بالنفي فدعا له الإمام(ع) قائلاً: اللهمّ ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم العضد الولد ثم تمثل(ع):
من كان ذا عضد يُدرك ظلامته *** إن الذليل الذي ليست له عضد
إن الذليل الذي ليست له عضد *** إن الذليل الذي ليست له عضد
ثم سأل الإمام(ع) عمّا إذا كان له ولد فأجابه الإمام(ع) قائلاً: إي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فأمّا الآن فلا[6].
الخطوة الثانية:
لقد قام الإمام الحسن العسكري(ع) بالإشهاد على الولادة فضلاً عن إخباره وإقراره بولادته وذلك إتماماً للحجّة بالرغم من حراجة الظروف وضرورة الكتمان التام عن أعين الجواسيس الذين كانوا يرصدون دار الإمام(ع) وجواريه قبل الولادة وبعدها.
إن السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد واُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام الحسن العسكري(عليهم السلام) قد تولّت أمر نرجس اُم الإمام المهدي(عج) في ساعة الولادة[7].
وصرّحت بمشاهدة الإمام المهدي(عج) بعد مولده[8] وصرّح الإمام العسكري(ع) بأنها قد غسّلته[9].
وساعدتها بعض النسوة مثل جارية أبي علي الخيزراني التي أهداها الى الإمام العسكري(ع) ومارية ونسيم خادمة الإمام العسكري(ع) [10].
الخطوة الثالثة:
وتمثّلت هذه الخطوة بإخبار الإمام(ع) شيعته بأنّ المهدي المنتظر(عج) قد وُلد، وحاول نشر هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ.
ولدينا ثمانية عشر حديثاً يتضمّن كلّ منها سعي الإمام(ع) لنشر خبر الولادة بين شيعته وأوليائه، وهي ما بين صريح وغير صريح قد اكتفى فيه الإمام(ع) بالتلميح حسب ما يقتضيه الحال.
فمنها الخبر الذي صرّح فيه الإمام العسكري(ع) بعلّتين لوضع بني العباس سيوفهم على أهل البيت(عليهم السلام) واغتيالهم من دون أن يكونوا قد تصدّوا للثورة العلنية عليهم حيث جاء فيه:
(فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله(ص) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولّد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)[11].
وقد تضمّن هذا الحديث الإخبار بولادته خفيةً ليتم الله نوره.
ومنها ما حدّث به سعد بن عبدالله عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي أنه خرج توقيع من أبي محمد(ع) جاء فيه: زعموا أنهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذّب الله عزّ وجل قولهم والحمدلله[12].
وحين قتل الزبيري قال الإمام(ع) في توقيع خرج عنه: هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عَقب، فكيف رأى قدرة الله فيه؟![13].
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد أنه قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) يقول: الحمدلله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله(ص) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يُظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظُلماً[14].
وعن أحمد بن الحسن بن اسحاق القمي قال: لمّا ولد الخلف الصالح(عج) ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي(ع) الى جديّ أحمد بن اسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخط يده(عليه السلام) الذي كانت ترد به التوقيعات عليه وفيه: (ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً فإنا لم نظهر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والوليّ لولايته…)[15].
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين خرج عيسى بن مهدي الجوهري مع جماعة الى سامراء بعد أن كانوا قد زاروا قبر الحسين(ع) بكربلاء وقبري أبي الحسن وأبي جعفر الجواد (عليهما السلام) في بغداد وبشّرهم اخوانهم المجاورون لأبي الحسن وأبي محمد(عليهما السلام) في سرّ من رأى بولادة المهدي(عج)، فدخلوا على أبي محمد(ع) للتهنئة، وأجهروا بالبكاء بين يديه قبل التهنئة وهم نيّف وسبعون رجلاً من أهل السواد فقال لهم الإمام(ع) ـ من جملة ما قال: ـ
(انّ البكاء من السرور من نعم الله مثل الشكر لها… ثم أراد عيسى بن مهدي الجوهري أن يتكلم فبادرهم الإمام(ع) قبل أن يتكلّموا، فقال: فيكم من أضمر مسألتي عن ولدي المهدي(عج) وأين هو؟ وقد استودعته الله كما استودعت اُم موسى موسى(ع)… فقالت طائفة: اي والله يا سيّدنا لقد كانت هذه المسألة في أنفسنا[16].
وقد أمر الإمام العسكري(ع) بعض وكلائه بأن يعقّوا عن ولده المهدي(عج) ويطعموا شيعته، والعقيقة له إخبار ضمني بولادته(عج).
بل جاء التصريح في بعضها بالولادة حيث كتب لبعضهم ما نصّه: (عقّ هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك…)[17].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- راجع معجم أحاديث الإمام المهدي: 4/ 196 ـ 200 .
2- راجع معجم أحاديث الإمام المهدي(عليه السلام): 4 /195 ـ 218 .
3- كمال الدين: 2/ 408 .
4- اثبات الهداة: 3 /569 .
5- غيبة الطوسي: 215 .
6- الخرائج: 1/ 478.
7- كمال الدين: 2/ 424 .
8- الكافي: 1/ 330 .
9- كمال الدين: 2/ 434 .
10- كمال الدين: 2/ 430 و 431 .
11- اثبات الهداة: 3/ 570 .
12- كمال الدين: 2/ 407.
13- الكافي: 1/ 329 .
14- كمال الدين: 2/ 418 .
15- كمال الدين: 2/ 433 .
16- الهداية الكبرى: 68، واثبات الهداة: 3/ 572.
17- اثبات الوصية: 221 .