إنّ المجابهات الأولى التي واجهها نداء التوحيد انطلقت من ذوي القدرة والسلطة في المجتمع. وهذا مؤشّر يُثبت أنّ الضربة التي وجّهها هذا الشعار اتّجهت أوّل وأكثر ما اتّجهت نحو تلك الفئة المقتدرة المسلّطة، أو نحو الفئة المستكبرة على حدّ التعبير القرآنيّ.
وقلنا أيضًا: إنّ الدعوات التوحيديّة في مختلف عصور التاريخ، ما إن انطلقت في المجتمع حتّى اتّخذت موقفها الواضح من المستكبرين. وعلى أثر هذا الموقف، انقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين: الفئة المعارضة المستكبرة، والفئة المؤمنة المستضعفة.
وأخيرًا: إنّ ردّ الفعل الذي تبديه هاتان الفئتان تجاه رسالة التوحيد هي الخاصّة التي تميّز التوحيد الحقيقيّ الأصيل. أي إنّ التوحيد – متى ما أُعلن بمفهومه الأصيل وبشكله الصحيح – يواجه هذه المجابهات وردود الفعل الاجتماعيّة.
والآن علينا أن نتفحّص أبعاد التوحيد لنرى أيّ بُعد من هذه الأبعاد يتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة المستكبرة ويصطدم مع وجودها. بعبارة أخرى، علينا أن نفهم تلك النظرة التوحيديّة التي تستثير المستكبرين وتدفعهم إلى اتّخاذ موقف المجابهة الحادّة. إذ إنّ تفهّمُ شخصيّة المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيرًا على فهم هذا الموضوع.
يعطي القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعًا صورة عن المستكبر وخصائصه النفسيّة ومكانته الاجتماعيّة وأهدافه وأطماعه التوسعيّة الاستئثاريّة. وبشكل عام، يحدّد للمستكبر الخصائص التالية:
يرفض الله بالمفهوم الذي تعبّر عنه عبارة: “لا إله إلا الله” (أي حصر الحاكميّة والمالكيّة المطلقة به تعالى)، وإن لم يرفض الله كحقيقة ذهنيّة تشريفاتيّة محدودة الإطار: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾[1]، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾[2]، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[3].
ويتّخذ موقف الجاحد والمكذّب تجاه دعوة النبيّ التغييريّة التحرّريّة، ويجابهها بحجّة أنّه أقدر من غيره على فهم الطريق الصحيح، وبحجّة أنّ الله ينبغي أن يخاطبه مباشرة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾[4]، ﴿وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ﴾[5].
كما ويتّهم المستكبرون صاحب الدعوة بأنّه يستهدف الحصول على الجاه والمنزلة، كما يتذرّعون بالتقاليد البالية السائدة لنظامهم المسيطر للحدّ من انتشار الدعوة في المجتمع؛ ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾[6].
ويستعينون بالقوّة والتزوير وبمختلف سبل الخداع والتضليل لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وعبوديّتهم، ويدفعونهم إلى مجابهة كلّ دعوة تحرّريّة: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل﴾[7]، ﴿فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾[8]، ﴿قَالَ الْمَلاَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾[9].
وأخيرًا، يعرّضون النبيّ وأتباعه الثائرين على النظام المسيطر وعلى الاتّجاه الفكريّ السائد لأقسى الحملات وأشدّ أنواع التعذيب والأذى والتنكيل؛ ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾[10]، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ﴾[11].
هذه هي باختصار الخصائص التي يذكرها القرآن الكريم للمستكبرين. وهناك مواضع أخرى تجاوز فيها القرآن رسم الصورة إلى وضع الإصبع على أفراد مشخّصين ينتمون إلى اتّجاهات معيّنة: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾[12]، ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ﴾[13].
ففرعون معروف، وهامان مستشار فرعون الخاصّ، والشخصيّة الأولى في جهاز فرعون طبعًا، و”ملأ فرعون” هم علّيّة القوم في هذا الجهاز، والسائرون في ركاب فرعون ومشاوروه ومساعدوه. وقارون هو صاحب الثروات الطائلة والكنوز التي ﴿مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾.
وباستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهليّ، الماسك – دون استحقاق – بزمام السلطة السياسيّة والاقتصاديّة. واستمرارًا لاستثماره وتسلّطه الجائر، يمسك أيضًا بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان، ويعمل بأساليب متنوّعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة. وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كلّ دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابيّة تغييريّة!! حفاظًا على مصالحه بل على وجوده.
روح التوحيد رفض عبوديّة غير الله، الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه المولى)
[1] سورة الصافات، الآية 35.
[2] سورة فصّلت، الآية 15.
[3] سورة لقمان، الآية 7.
[4] سورة الأحقاف، الآية 11.
[5] سورة الأنعام، الآية 124.
[6] سورة يونس، الآية 78.
[7] سورة الأحزاب، الآية 67.
[8] سورة غافر، الآية 47.
[9] سورة الأعراف، الآيتان 109- 110.
[10] سورة البروج، الآيات 4-7.
[11] سورة غافر، الآية 26.
[12] سورة يونس، الآية 75.
[13] سورة العنكبوت، الآية 39.