قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). الصوم يمثِّل الطاعة والعبادة والخضوع لله عزّوجلّ، وهو يعلِّم الإنسان التقوى والورع عن محارم الله، من خلال تقوية الإرادة في طاعة الله.
يسأل البعض لماذا كُتبت علينا فريضة الصيام في شهر رمضان؟ فإن كانت حكمة الصيام هي تحصيل التقوى وتزكية النفس وتعبئة الحالة الروحية في الإنسان، فهذا يقتضي أن يكون الصيام في أي يوم، وفي أي شهر، وفي أي فصل من فصول السنة، فلماذا سُنّ الصيام في شهر رمضان المبارك بالذات؟
وللإجابة على ذلك، فإنّ الصوم بذاته واجب على الإنسان أن يؤدِّيه في السنة شهراً، ثمّ تَحدَّدَ هذا الشهر برمضان، فإن لم يستطع المسلم أن يصومه فعليه أن يقضيه في أيّام أُخر؛ أي أن يصوم شهر كاملاً بدلاً عن الصيام في شهر رمضان، هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ شهر رمضان قد اختصه الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة، فهو الفعّال لما يريد، وهو الذي يسأل ولا يُسأل عمّا يفعل. خصّ الله شهر رمضان برحمته، وجعل فيه ليلة القدر، وأنزل في هذه الليلة المقدّسة القرآن الكريم، كما جعل في هذا الشهر المناسبات الجميلة واللطيفة، كما خصّه باستجابة الدُّعاء ومضاعفة الخير، حتى أنّ الإنسان ليقرأ الآية الواحدة من الذِّكر الحكيم فيضاعف الله له الثواب، فيكون كأنّما قد قرأ القرآن الكريم كلّه. وقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أُجزي به» بمعنى أنّ الله هو الوحيد القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً. ومن هنا جعل الصوم باعتباره عملاً شريفاً عظيماً وجُنّةً من النار، كما جعل هذا الصوم أيضاً في هذا الشهر باعتبار عظمة هذا الشهر.
ولمّا كان شهر رمضان شهر الرحمة والجذب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الرحمة، تجد الناس مطمئنين النفس والوجدان، فيمرّ عليهم هذا الشهر مروراً سريعاً يفاجئون بانتهائه. ولهذا ولغيره من الأسباب الاضطرارية فقد خفّف الله عن عباده الصيام في شهر رمضان وأرجأه إلى أيّام أُخر، ولم يأمر المسافر – مثلاً – بأداء فريضة الصيام، بل حتى قال بعض الفقهاء بعدم جواز الصيام فيه، فضلاً عن عدم وجوبه، لأنّ الرخصة في هذا الإطار بمثابة الهدية الإلهيّة، ولا يصح ردّ هدية الله. كذلك الأمر بالنسبة إلى حالة المرض التي لا تتطلب أن يجهد المرء نفسه لتجاوزها، فالله رؤوف بعباده، ولا يريد لهم التعب.
وعلى هذا الأساس حدّد الله تبارك وتعالى شهر رمضان شهراً للصيام، ليتقرّب إلى بارئه أكثر من أي وقت آخر، فيستفيد من هذه الفريضة الإلهيّة أكثر الاستفادة، حيث يصل به إلى التقوى والرضوان. والصوم أيضاً قد أمر به أوّلاً في الحالات العادية في كلّ عام شهراً واحداً، وأمر به مرّة أُخرى حينما يحتاج الإنسان إليه، حيث قال ربّنا تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 153). وقد فسّرت كلمة (الصبر) من هذه الآية المباركة على أنّها الصيام، نظراً لأنّ الإنسان حينما يكون صائماً يكون أصبر عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية وعمّا أمر الله بتركه.