قد يُتصور أحياناً أنّ الشفيع يحول دون تحقق إرادة الحاكم العادل، ويُنقذ من العقوبة الشخص الذي ينوي ذلك الحاكم معاقبته، إلّاأنّ هذا الكلام لا يصدق بحق اللَّه جلّت عظمته.
فهذا التصّور الخاطىء ناتج من اعتبار الشفاعة التي يصورها القرآن مماثلة للشفاعة المتعارفة بين يدي الجبّارين والحكام الظالمين، فالأشخاص المتنفّذين عند هؤلاء الحكام يحاولون استنقاذ المذنبين الذين يرتبطون معهم بصلةٍ ما، خلافاً للأصول المرعّية، فيضطر الحاكم أو السلطان إلى النزول عند رغبة هؤلاء المتنفذين- لحاجته إليهم- وقبول شفاعتهم والتغاضي عن معاقبة المذنب وقد تكون خلافاً لرغبته أحياناً.
إلّا أنّ هذه المسائل لا تصدق على اللَّه تعالى ولا تنطبق على الشفاعة بين يديه، فالشفاعة هناك لها طابع آخر، فأولياء اللَّه يطلبون الشفاعة بإذن اللَّه لمن لديهم ذنوب لكنها ليست كبيرة، ولديهم في مقابل تلك الذنوب أعمال صالحة أيضاً، وطرح هذا الموضوع يُعتبر في الحقيقة تربية للنفوس وتطهيراً لها
ألا تتعارض الشفاعة مع التوحيد
إنّ التصور بوجود تعارض بين الشفاعة والتوحيد هو واحد من الإشكالات المعروفة بشأن موضوع الشفاعة، ومَرَدُّ ذلك هو الإعلام المكثف الذي وظّفهُ الوهابيون ضد هذه المسألة، ولهذا ينبغي الالتفات إليها جيّد:
تدور عقائد الوهابيين بشكل أساسي حول عددٍ من المحاور، وأكثرها وضوحاً هي مسألة التوحيد في الأفعال والتوحيد في العبادة، فهم يفسِّرون فرعي التوحيد هذين وكأنّهما يتعارضان مع موضوع الشفاعة والتوسل بأرواح الأنبياء والأولياء وشفاعتهم بين يدي اللَّه، ولهذا السبب فقد اعتبروا جميع فرق المسلمين التي تعتقد بهذه الامور (باستثناء الوهابيين) مشركة، ولا تعجبوا لو قلنا إنّهم يعتبرون أرواح غيرهم وأموالهم وأعراضهم مباحة مثلما كان يفعل عرب الجاهلية المشركون.
وانطلاقاً من هذا المعتقد فقد أراقوا دماء الكثير من المسلمين في الحجاز والعراق، ونهبوا أموالهم، وارتكبوا جرائم كثيرة لم يسبقهم إليها أحدٌ في الإسلام.
ولمؤسِّس هذه الفرقة وهو محمد بن عبدالوهاب (المتوفى عام 1206) كتابٌ يعرف باسم «رسالة القواعد الأربع» يقول فيه حول هذا الموضوع:
إنّ الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد:
الاولى: أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يُقِرون بأنّ اللَّه تعالى هو الخالق الرزاق المدبر ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى: ﴿قُل مَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالارضِ امَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالْابصَارَ وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُل افَلَا تَتَّقُونَ﴾ (يونس/ 31).
الثانية: أنّهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة ﴿وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَالَا يَضُرُّهُم وَلَا يَنَفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾. (يونس/ 18)
الثالثة: أنّه صلى الله عليه و آله ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء والصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.
الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأنّ أُولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: ﴿فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الَى الْبَرِّ اذَا هُمْ يُشرِكُونَ﴾ (العنكبوت/ 65) «1».
والغريب في الأمر هو تمسكهم بهذه الأقاويل التي لا تعدو أن تكون مجرّد سفسطة ومغالطة، فيبيحون وبهذه البساطة أرواح وأموال خصومهم، ويجيزون قتلهم، كما يقول الشيخ «سليمان» وهو من زعماء هذه الفرقة الضالة في كتابه «الهدية السنيّة» بأنّ الكتاب والسُنّة يشهدان على أنّ كلّ من يجعل الملائكة والأنبياء أو بعض الأصحاب وأهل البيت كابي طالب وابن عباس واسطة بينه وبين اللَّه عزّ وجلّ ليشفعوا له عند اللَّه تعالى لقربهم منه كما يشفع إلى السلاطين بواسطة المقربين منه فمثل هذا الشخص كافر ومشرك، ومباح دمه وماله حتى لو كان يشهد والشهادتين ويصلي ويصوم «2».
لقد أثبتوا تمسكهم بهذا الحكم القبيح والمخزي أي اباحة دماء وأموال المسلمين من خلال الأحداث التاريخية المختلفة ومنها الحادثة المشهورة لقتل أهالي الطائف في الحجاز قتلًا جماعياً وذلك (في صفر عام 1343)، والقتل الجماعي لأهالي كربلاء في العراق (في 18 ذي الحجّة عام 1216) وهذا ما ورد في الكثير من كتب التاريخ.
(1). «رسالة القواعد الأربع» تأليف محمد بن عبد الوهاب زعيم الوهابيين: من ص 24 إلى ص 27 وفقاً لما نقله كتاب كشف الارتياب، ص 163.
(2). الهدية السنية، ص 66.