ما هو الهدف المرسوم لخلافة الإنسان على الأرض؟
وفي أيّ اتّجاه يجب أن تسير هذه الخلافة في ممارستها الدائبة؟
ومتى تحقّق هدفها وتستنفذ غرضها؟
إنّ الخلافة الربّانية للجماعة البشرية وفقاً لركائزها المتقدّمة، تقضي بطبيعتها على كلّ العوائق المصطنعة والقيود التي تجمّد الطاقات البشرية وتهدر إمكانات الإنسان؛ وبهذا تصبح فرص النمو متوفّرة توفّراً حقيقياً.
النمو الحقيقي في مفهوم الإسلام، أن يحقّق الإنسان – الخليفة على الأرض – في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عزّ وجلّ الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون. فصفات الله تعالى وأخلاقه، من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبّارين والجود الذي لا حدّ له، هي مؤشّرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة، فقد جاء في الحديث: “تشبّهوا بأخلاق الله”. ولمّا كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حدّ لها، وكان الإنسان الخليفة كائناً محدوداً، فمن الطبيعي أن تتجسّد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق، وسير حثيث إلى الله. وكلّما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسّد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت، سجّل بذلك انتصاراً في مقاييس الخلافة الربّانية، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي، إلّا بانتهاء شوط الخلافة على
الأرض، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾[1].
ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من أصول الدين، ويميز عن سائر صفات الله تعالى بذلك، وإنّما كان تأكيداً على أهمّ صفات الله تعالى في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية؛ وذلك لأنّ العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساس لنمو كلّ القيم الخيّرة الأخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرّك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيّرة.
فالخلافة إذاً، حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة، وهي حركة لا توقّف فيها؛ لأنّها متّجهة نحو المطلق، وأيّ هدف آخر للحركة سوى المطلق – سوى الله سبحانه وتعالى – سوف يكون هدفاً محدوداً، وبالتالي سوف يجمّد الحركة، ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان. وعلى الجماعة التي تتحمّل مسؤولية الخلافة أن توفّر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كلّ الشروط الموضوعية، وتحقّق لها مناخها اللازم، وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدّمة للخلافة الربّانية.
نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل، مركز نون للتأليف والترجمة
[1] سورة الانشقاق، الآية 6.