الإيمان باليوم الآخر أصلٌ من أصول الدين، وهو مفتاحُ الاستقامة للمؤمن الذي يُعِدُّ نفسه للمساءلة والحساب، فإذا ما استحضر الخطوات المؤدّية إلى يوم القيامة، وعاش خصوصيّاتها، واستعدَّ لها، ساعدته على مراقبة نفسه وأعماله، وأهَّلته ليؤدّي أعماله في الدنيا على طريق الإيمان.
*الشهادة بالآخرة
عن الإمام علي عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: “واعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، ولِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، ولِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ ودَارِ بُلْغَةٍ، وطَرِيقٍ إِلَى الآخِرَةِ، وأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، ولَا يَفُوتُه طَالِبُه، ولَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَى حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وأَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ”(1).
أولى الخطوات إلى نهاية الحياة الدنيا هي الموت، ويَشهد في الزيارة: “أَنَّ المَوْتَ حَقٌّ”، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت: 57)، وقال: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المنافقون: 11)، والشهادة بالموت ليست مجرَّد اعتراف بوقوعه، بل هي انتظارٌ لحصوله، ما يضع المؤمن أمام استحقاقٍ لا بدَّ أن يستعدّ له.
*مَلَكا الكافر “ناكر ونكير”
“وَأَنَّ ناكِرًا وَنَكِيرًا حَقٌّ”. جاء في (تصحيح اعتقادات الإماميّة) للشيخ المفيد قدس سره: “فمنها أنَّ ملكين لله تعالى يقال لهما: ناكر ونكير، ينزلان على الميت، فيسألانه عن ربّه ونبيّه ودينه وإمامه، فإنْ أجاب بالحق سلَّموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتجّ عليه (لم ينطق) سلَّموه إلى ملائكة العذاب. وقيل في بعض الأخبار: إنَّ اسمَي الملكَين اللذين ينزلان على الكافر: ناكر ونكير، واسمي الملكين اللذَين ينزلان على المؤمن: مبشّر وبشير. وقيل: إنَّه إنَّما سُمّي ملكا الكافر “ناكراً ونكيراً”، لأنَّه يُنكر الحق ويُنكر ما يأتيانه به ويكرهه، وسُمّي ملَكا المؤمن “مبشراً وبشيراً”، لأنَّهما يبشّرانه بالنعيم، ويبشرانه من الله تعالى بالرضا والثواب المقيم. وإنّ هذين الاسمين ليسا بلقب لهما، وإنهما عبارة عن فعلهما”(2).
“وَأَشْهَدُ أَنَّ النَّشْرَ حَقٌّ”، النَّشر هو الإحياء بعد الموت، وهو ما يحصل للمخلوقات التي يعيدها الله تعالى إلى الحياة في يوم القيامة.
“وَالبَعْثَ حَقٌّ”، البعث هو إحياء الأموات بإخراجهم من قبورهم إلى مشهد يوم القيامة، فهو الإحياء بعد الموت.
*الصراط والمرصاد
“وَأَنَّ الصِّراطَ حَقٌّ”، الصراط هو الطريق الذي يسلكه جميع الناس يوم القيامة، فيجتازه المؤمنون، وتزلّ فيه أقدام الكافرين، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ (المؤمنون: 74).
“وَالمِرْصادَ حَقٌّ”، المرصاد هو الموضع الذي ترصد الناس فيه، وقيل: المرصاد هو المكان الذي يُرصَدُ فيه العدو، قال تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآباً﴾ (النبأ: 21-22)؛ أي ترصد الكافرين.
“وَالمِيزانَ حَقٌّ”، الميزان تعبير عن العدالة، ويوم القيامة هو يوم العدالة، حيث يحاسب الله تعالى الناس على أعمالهم، فلا يبخسهم شيئاً، ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: 49).
“وَالحَشْرَ حَقٌّ”، الحشر هو سَوْقُ الخلق جميعاً إلى الموقف؛ أي جَمعهم من كلّ حَدَبٍ وصَوب وعبر الأزمان إلى موقف واحد، ولذا يوم القيامة هو يوم الحشر والجمع.
*الجنّة حقّ
“وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ”، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلّاَ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلاَ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (هود: 106-108).
“وَالوَعْدَ وَالوَعِيدَ بِهِما حَقٌّ”، قال الشيخ الطوسي قدس سره: “الوعد عبارة عن الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له، والوعيد عبارة عن الإخبار بوصول ضرر إليه. والمستحقّ بالأفعال ستة أشياء: مدح وذم وثواب وعقاب وشكر وعوض”(3)، فهما وعد الله بالمكافأة وثواب الجنة، ووعيد وتحذير الكافرين والضالين بعقاب النار.
*ولاية أهل البيت عليهم السلام
بعد الشهادة التي تُصدِّق بالمعاد ومقدّماته وبعض تفاصيله ونتائجه، تؤكّد الزيارة على أنّ الارتباط بالله تعالى، والسير على نهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام هما طريق النجاة والسعادة والفوز. وإنَّ اتِّباع الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف خلاصة هذه الطريق ومَعْلَمُها، والتي تؤدّي إلى السعادة الحقيقية. “يا مَوْلايَ شَقِيَ مَنْ خالَفَكَ، وَسَعِدَ مَنْ أَطاعَكَ”، فمن خالف الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف سار في طريق الضلال، وهي التي تؤدي إلى الشقاء في الآخرة، ومن اختار طاعته فقد وصل إلى السعادة فيها.
ثم تتابع الزيارة بتأكيد التولّي والتبرّي، التولّي لِوليّ الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف، والتبرّي من أعدائه الذين سلَكوا طريق الضلال، “فَاشْهَدْ عَلى ما أَشْهَدْتُكَ عَلَيْهِ، وَأَنا وَلِيٌّ لَكَ بَرِيءٌ مِنْ عَدُوِّكَ”. هذه هي سفينة النجاة التي حدّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
“من أحبّ أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليوالِ علياً بعدي، وليُعادِ عدوَّه، وليأتمّ بالأئمة الهداة من ولده، فإنَّهم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمتي، وقادة الأتقياء إلى الجنة، حزبُهم حزبي، وحزبي حزب الله عزَّ وجل، وحزب أعدائهم حزب الشيطان”(4)، “فَالحَقُّ ما رَضَيْتُمُوهُ، وَالباطِلُ ما أَسْخَطْتُمُوهُ، وَالمَعْرُوفُ ما أَمَرْتُمْ بِهِ، وَالمُنْكَرُ ما نَهَيْتُمْ عَنْهُ”. وهذا ما يفسّر قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام: “إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها”(5)، لأنَّها مقياس الحقّ والطاعة، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم: “فمن كنت مولاه فعليّ مولاه… اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِرِ الحقّ معه حيث دار”(6)، لأنَّه عليه السلام القرآن الناطق بطاعة الله تعالى، وهو المؤشّر الذي يدلّ على الصواب والاستقامة.
تختم الزيارة: “فَنَفْسِي مُؤْمِنَةٌ بِالله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِرَسُولِهِ، وَبِأَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَبِكُمْ يا مَوْلايَ أَوَّلِكُمْ وَآخِرِكُمْ، وَنُصْرَتِي مُعَدَّةٌ لَكُمْ، وَمَوَدَّتِي خالِصَةٌ لَكُمْ، آمِينَ آمِينَ”. وهذا تأكيد للشهادتين والشهادة بالولاية، مصحوبٌ بعهد النصرة مع كامل الاستعداد لها، والمودّة الخالصة لوجه الله تعالى، حتّى يبلغ المؤمن مناه في القرب من الله تعالى وثوابه في الآخرة.
1- نهج البلاغة، من وصيّته عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام، ص400.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، ص99 – 100.
3- الاقتصاد، الشيخ الطوسي، ص107.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج1، ص262.
5- الغدير، الشيخ الأميني، ج7، ص191.
6- دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج1، ص16.