حوار مع صديق
لأنّه شخص استثنائيّ لا يتكرّر، فقد بكاه الإمام الخامنئيّ دام ظله بحرقةٍ وألم. إنّه شخصيّة متعدّدة الجوانب؛ فهو في اللحظة التي يكون فيها قائداً، وزعيماً، يكون المفكّر، والمجاهد، والأخ، والأب، والابن، والصديق، والرفيق… وقد منحه العدوّ باغتياله أرفع وأسمى وسام، ألا وهو وسام الشهادة.
اختار “حبيب” اسماً جهاديّاً له، وكان حبيبَ كلِّ مَن عرفه قبل استشهاده، وبعده. للوقوف عند بعض جوانب هذه الشخصيّة الاستثنائيّة، كانت هذه المقابلة التي أجرتها مجلّة “بقيّة الله” مع أحد أصدقائه المقرّبين وزملاء دربه لنزداد قرباً.
لم يكن الشهيد سليماني شخصيّة مجهولة لدى الناس، لكنّ شخصيّته الجهاديّة والإنسانيّة لا يعرفها إلّا المقرّبون، كيف تصفونه عن قرب؟
الحاجّ قاسم سليماني هو ذلك الشخص الذي يصعب أن يعرف أحد قدره، باستثناء السيّد القائد دام ظله بدلالة بكائه عند استشهاده، الذي لم يكن بكاءً على شهيد، بل كان بكاءً مرّاً، يدلّ على عظمة هذه الشخصيّة. حتّى أخصامه لا يعرفون قدره الحقيقيّ، لكنّهم يعرفون خطورته عليهم. يصعب أن نجد شخصيّة متعدّدة الجوانب وواسعة الأفق مثله. الكاريزما، والشروط الموضوعيّة، وغيرها، التي كانت في الحاج قاسم، لم تكن موجودة في غيره، وهو كان منتبهاً لذلك، إذ كان يشير ويعبّر مراراً وتكراراً بقوله: “أنا غير باقٍ لأبد الآبدين، ومن سيأتي بعدي ربّما لن يستطيع أن يقدّم ما أستطيع أن أقدّمه، لذلك فليستفد الإخوان الآن”.
في عزّ انشغاله بالقضايا الكبرى، لا يقصِّر في تعامله الإنسانيّ. فقد عمل الحاج قاسم على الاهتمام باحتياجات الناس المعنويّة والماديّة، والسعي في قضاء حوائجهم. وكان يدعونا أيضاً إلى الاهتمام بالناس جميعاً، سواء المتديّنين أو غير المتديّنين منهم؛ ترسيخاً لقيم الإسلام. وكان دقيقاً في المستوى الأخلاقيّ؛ إذا أراد أن يصدر أمراً، كان يستخدم أسلوب التمنّي؛ أي: أتمنّى. وكان يصرّ في الفترة الأخيرة على مدّ أواصر العلاقة مع أبناء الشهداء في لبنان، من خلال الاعتناء بهم وقضاء حوائجهم.
شاهدنا تسجيلات عدّة تتحدّث عن رقّة قلبه ودموعه، عن قرب، بماذا تميّز الشهيد سليماني أخلاقيّاً؟
أكثر ما تميّز به الحاج قاسم هو الوفاء، وهو ميزة عجيبة وعميقة؛ مثلاً، بعدما استشهد أحد الضبّاط السوريّين الذي قدّم خدمات كثيرة للمقاومة في مرحلة الدفاع عن المقدّسات، أراد الحاجّ قاسم أن يردّ له الجميل وفاءً لما قدّمه، فلم يترك عائلته بعد استشهاده، وكان يهتمّ ببعض شؤونهم، ويقول: “إنّ هذا دَين، يجب أن نوفيه له”.
كما أنّ من يعرفه، يعرف تواضعه، فهو لم يكن تلك الشخصيّة العسكريّة الجهادية المتصلّبة، فقد كان ينسى أنّه قائد، يتوجّب عليه المحافظة على مسافة هيبة بين قيادته وبين عناصره، على قاعدة “أن تُهاب خيرٌ من أن تُحبّ”. ولأجل تواضعه هذا احتلَّ مكانةً كبيرةً في قلوب إخوانه ومحبّيه. من أحد المشاهد الجميلة التي لا أستطيع نسيانها أنّه عندما كان يترجّل من الطائرة، كان يحاول أن يُقبّل أيدي الموجودين من الإخوان، وبحرص ودقّة يسأل عن أحوالهم وشؤونهم التفصيليّة.
كان يهتمّ براحة العناصر النفسيّة أيضاً، ففي يوم من الأيّام، كنّا مجموعة، وكان من المفترض أن يبيت الإخوان في أحد الفنادق، والشهيد القائد في مكان آخر، فلم يتقبّل فكرة الفصل، ثمّ أُجريَ ترتيب عمليّ على أنّ يبيت الحاجّ مع الإخوان لكن في غرفة منفصلة، لم يتقبّل أيضاً أن يستقلّ في غرفة، فيما بقيّة الإخوان يمكثون كلّهم في غرفة واحدة، أمّا في موضوع الطعام، فقد كان يحرص على أن يأكل الإخوان كلّهم معه، ومن الطعام نفسه. والجدير ذكره، أنّنا كنّا في أحلك الظروف، نجد مع الحاجّ قاسم الوقت لنضحك، كان يبتسم كلّما نظر في وجه أحد ما. هناك تعبير جميل في اللغة الإيرانية “بي نظير”؛ أي “ليس له نظير أو مثيل”.
معنويّاً، ما هي أكثر الأمور تأثيراً به؟
مِن مميّزات الحاج قاسم المعنويّة، أنّه كان يعيش حالة أنّ بدنه في الدنيا وروحه في الآخرة، ولكن لا يلاحظ ذلك أحد. فمن يقرأ وصيّته يجد أنّها جامعة. هذا القائد الذي يوجّه نصيحة للمسؤولين من مختلف الأطياف السياسيّة، هو نفسه يقول لحسين بور جعفري (مساعده): “أنا زاحمتك، وأتعبتك، وأنا أعتذر منك…” وقد استشهد معه. إضافة إلى حنينه إلى الجبهة، لطالما تأثّر الشهيد قاسم بذكريات الحرب المفروضة، وكذلك بذكريات الإخوة الشهداء، كان يبكي بكاءً شديداً كلّما أتى أحد على ذكر اسم شهيد منهم.
كان الشهيد قاسم يغيب فترات طويلة عن بيته وعائلته بحكم عمله. كيف كان يتعامل مع هذا الموضوع؟
كان لديه خصلة جميلة وراقية، حتّى في عزّ حضوره بالجبهات، كان يتّصل يوميّاً بزوجته ليطمئنها عنه، وليهدّأ بالها؛ لحرصه على مشاعرها، كونه يعلم أنّها شديدة القلق عليه. وفي اليوم الذي لا يستطيع الاتّصال فيه بها، كان يعتبر أنّه مقصّرٌ في حقّها. وكان أيضاً في خضمّ المعارك، وفي لحظات الشدّة، يتّصل بابنته، إذ كانت علاقتها به مميّزة. هذا هو قاسم سليمانيّ الإنسان صاحب المشاعر والقلب الرقيق.
ولرقّة قلبه درجات عميقة، ففي أحد أيّام الشتاء، حيث تتساقط الثلوج في طهران، كان الشهيد حاضراً في إحدى الجبهات، فاتّصل بالإخوة في طهران ليسأل عن المناطق الحرجيّة حولها، حيث تسكنها غزلان بريّة، فأخبروه أنّها مقفلة جرّاء تساقط الثلوج، فطلب منهم وضع الطعام على أطراف الأحراج، والسبب: “لأنّ الغزلان لن تجد قوتاً”! هذا الردّ في حدّ ذاته كان مدعاةً للدهشة، فمع كون المعركة في أوْجها، لم يمنعه ذلك من التفكير بالغزلان، وأخيراً قال: “إنّها تدعو لنا”. ولم يكتفِ بالطلب، بل أعاد الاتّصال بعد ساعة، للسؤال: “هل تمّ تنفيذ الأمر أم لا؟”.
ثمّة تسجيل يقول فيه الشهيد المهندس إنّه يفخر بأن يكون جنديّاً عند الشهيد سليماني، وتدمع عيناه حبّاً، ما سرّ هذا التعلّق بينهما؟
في البداية، كانت علاقة الحاجّ أبو مهدي بالحاجّ عماد وثيقة جدّاً في فترة من الفترات قبل أن تكون علاقته متينة بالحاجّ قاسم، التي توثّقت عمليّاً بعد الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وتحديداً عندما تسلّم الحاج قاسم مسؤوليّة فيلق القدس، وهكذا بدأت العلاقة المميّزة، على الرغم من أنّهما كانا في جبهة الحرب المفروضة نفسها، لكن لم تنشأ هذه العلاقة حينها. وليس بغريب أن يصف الحاجّ قاسم الحاجّ أبا مهدي بالأخ والصديق والعزيز والحبيب؛ أوّلاً لأنّ العلاقة بينهما علاقة تاريخيّة طويلة، وثانياً؛ لأنّ إخلاص أبو مهدي إلى خطّ الولاية، إخلاص مميّز. واللافت أنّه عندما كان يُسأل كلّ واحد عن علاقته بالآخر، كان الحاج أبو مهدي يقول: “أنا جنديّ عند قاسم سليماني”، وكذلك كان الحاج قاسم يقول: “أنا جنديّ عند الحاجّ أبو مهدي”. فالشهيد القائد الحاج أبو مهدي المهندس تميّز بأخلاقه وابتسامته التي لم تفارق وجهه. وهو من القادة المجاهدين الذين يستحقّون أن يُسلّط الضوء على حياتهم وسيرتهم الجهاديّة، مع أنّه لن يوفّى حقّه؛ إذ له تاريخ جهاديّ حافل.
على الرغم من تواضع الشهيد سليماني وطيبة قلبه ومساعدته للآخرين، فقد كان هذا الوجه السموح يخفي حزماً ودقّة وإصراراً في العمل. ماذا تخبروننا عن شخصيّته الحازمة القياديّة؟
كان الحاجّ قاسم مسؤول فيلق القدس، الأمر الذي ألقى على عاتقه مسؤوليّات جساماً، ما استدعى أن يكون جديّاً وحازماً وصارماً ورقيباً ومسؤولاً في المواقف التي تتطلّب ذلك، وشديد الحرص على متابعة أدقّ التفاصيل مع المعنيّين؛ فإذا ما أعطى تعليمات بتنفيذ مهامّ ما، كان لا ينتظر كثيراً حتّى يقوم بالاتّصالات لمتابعة ما هي درجة تنفيذ هذا العمل، وأين أصبح، وهل ثمّة معوّقات.
وفي هذا المجال، كنّا نمازح الأخ الشهيد حسين بور جعفري (رحمه الله)وهو مساعده، وأمام الحاج قاسم، بالقول: “أنت إلى الجنّة بثيابك، لأنّك تحمّلت العمل مع الحاج قاسم!”. فقد كان دؤوباً في متابعة المهامّ.
هل مِن قصّة خاصّة تبيّن مكانة الشهيد القائد قاسم سليماني وفضله؟
قبل استشهاد الشهيد حسين بور جعفري بسنة أو أقلّ، اضطرّ أن يتّخذ قراراً بترك العمل لظروف خاصّة. وقد روى لي كيف أنّه ذهب إلى قمّ بعد ثمانية أيّام من تركه العمل، وزار السيّدة المعصومة عليها السلام، وهناك التقى بأحد العلماء، فبادره هذا العالم بالقول: “لقد كنت تعمل مع عظيم الشأن، ومقامه عند اللّه كبير جدّاً جدّاً جدّاً، وأخطأت بتركه، عليك أن تصلح خطأك بالالتحاق به مجدّداً!”. قال لي الشهيد بور جعفري حينها: “عند سماعي لحديث هذا العالم، بدأت بلطم رأسي. فأنا لم أقل له مَن أنا، ومع مَن كنت أعمل، حتّى إنّني لم أقل إنّني تركت الحاجّ، بل هو بادرني وقال لي: أنت لا تعلم ماذا تفعل بنفسك، أنت لا تعلم كم تظلم نفسك في هذا الطريق؛ لأنّك تركت هذا الشخص”.بعد تلك الحادثة، عاد بور جعفري مباشرة إلى العمل. وفي هذه الفترة، كنت أسأل الحاج قاسم عن وضعه، فيقول لي: “سوف يرجع، بالتأكيد سيرجع، هو لا يستطيع أن يبتعد”.
عن اللحظات الأخيرة، كيف كان الوداع الأخير؟
يوم الجمعة، كنت عند الحاج قاسم في إيران، حيث كان وعائلته في منطقة (كرج)، وكان من الضروريّ جدّاً أن ألتقي به. قابلته واتّفقنا على أن نلتقي الاثنين لنتكلّم بالتفاصيل. يوم الاثنين، ذهبت إليه وقابلته، فطلب منّي أن نذهب معاً إلى العراق، كونه سيغادر إلى العراق في اليوم الثاني؛ أي الثلاثاء، فقلت له إنّنا سنلتقي في العراق يوم الأربعاء.
قال لي حينها بور جعفري: “لمَ لا تذهب معنا إلى العراق غداً؟”، فقلت له: “لا أستطيع، لديّ بعض الأعمال الضروريّة”. وقتها لم يتدخّل الحاجّ قاسم.
يوم الثلاثاء، أتى الحاج قاسم إلى لبنان، وقد كان من المفترض أن يسافر إلى العراق. التقينا، ويوم الأربعاء قلتُ لبور جعفري: “ألم تكونا ذاهبَين إلى العراق؟”، قال لي: “بلى، ولكن في اللحظة الأخيرة طلب الحاج قاسم أن نأتي إلى لبنان”.
يوم الخميس، كان من المُقرَّر أن يسافر الحاج عند الساعة السابعة، كنّا حينها في سوريا، ولسبب ما تأخّر إقلاع الطائرة إلى الساعة الحادية عشرة. كنت أهمّ بترتيب أوراقي للمغادرة، فأتى الشهيد بور جعفري بالخبز المحمّص، فأخذ منه الحاج رغيفاً قسمه إلى قسمين، أخذ نصفه وأعطاني النصف الآخر، وقال لي: “أنا سأسافر، متى ستأتي إليّ؟”، قلت له: “السبت”، قال لي: “لا تتأخّر”. فوقف بور جعفري وقال لي: “حاج، فلتذهب معنا”، قلت له: “لا أستطيع”، فردّ الحاج قاسم مباشرة، وقال له: “دعه، إنّه لا يستطيع أن يذهب معنا، فلديه عمل ضروريّ”. فعاد بور جعفري وألحّ، وعاد الحاج قاسم ليقول: “دعه، لديه عمل ضروريّ، وسيلتحق بنا لاحقاً”. أكلتُ نصف رغيفي وذهبت، كان ذلك قبل استشهاده بستّ ساعات.
من عرف الشهيد القائد لوعه شوق الفراق، فماذا تفعلون حين تشتاقون إليه؟
ألجأ إلى أرشيف الذكريات، إلى اللطميّات التي كان يسمعها بكثرة، إلى الصور، إلى الفيديوهات، وكلّ ما يتعلّق به. صحيح أنّ العودة إلى تلك الذكريات أمرٌ مفرح، ولكنّها موجعة كثيراً في الوقت نفسه، لأنّنا نتحسّر على خسارة شخص مجاهد ومقاوم لا مثيل له، نتحسر على فراقنا له، وما يعزينا أنّه نال أمنيّته، ومخلّدٌ اسمه رغماً عن أعدائه.