آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآمليّ
أن يكون النظام إسلاميّاً ليس مجرّد شعار يُرفع أو كلام يُقال. بل يُستدلّ عليه بما يحمل من أهداف ويحقّق من غايات… ثمّ إنّ بقاء هذا النظام واستمراره من النواحي السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة مرهونان بمراعاة مجموعة من الضوابط، يؤدّي ضياعها إلى الانهيار على المستوى السياسيّ-الاجتماعي أو الاقتصاديّ-الاجتماعيّ. هذا المقال يسلّط الضوء على شرطَي إسلاميّة النظام. ثمّ يعرّج على أهم العلل التي تضمن بقاء هذا النظام واستمراره إن روعِيت وإلا كان الانهيار مصيراً محتوماً له. ويجيب أخيراً عن أسئلة ترتبط بالحكومة الإسلاميّة.
* شرطا إسلاميّة النظام
يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) أنّ النظام حتّى يكون إسلاميّاً. وحتّى تكون جميع الأعمال إلهيّة. لا بدّ من شرطَين: النيّة الصالحة، وخدمة الناس. “وإنْ كانت كلُّها (الأعمال) لله، إذا صلَحتْ فيها النيّة، وسَلِمَت منها الرعيّة”(1).
بالنيّة الصالحة وبخدمة الناس تكون جميع الأعمال المتعلّقة بالنظام الإسلاميّ عبادة، فالعمل الذي يصدر عن إنسان صالح. ويكون نافعاً للناس، فهو عبادة، أمّا العمل الذي يصدر عن إنسان صالح، لكنّه خالٍ من الفائدة للناس. فلا يكون عبادة، وكذلك العمل من دون نيّة القربى إلى الله فلا يكون موفّقاً حتّى لو كان مفيداً للناس. فالعامل يكون موفّقاً إذا توفّر في عمله شرطان:
1- كون الفاعل صالحاً للعمل ويعمل من أجل الله (حسن الفاعل).
2- كون العمل نافعاً للناس (حسن الفعل).
وفي كلماته النورانيّة، يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام -وهو ذو الخبرة الطويلة في الحكم الإسلاميّ- عِلل الانهيار السياسيّ-الاجتماعيّ. وكذلك عِلل الانهيار الاقتصاديّ-الاجتماعيّ للحكومة.
* عِلَلُ انهيار الحكومات
يذكر أمير المؤمنين عليه السلام عِلل الانهيار السياسيّ-الاجتماعيّ للحكومات بقوله: “يُستَدلُّ على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول، والتمسّك بالغرور، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل”(2).
كما أرشدنا عليه السلام إلى عِلل الانهيار الاقتصاديّ-الاجتماعيّ. بقوله عليه السلام: “يُستدلّ على الإدبار بأربع: سوء التدبير، وقبح التبذير، وقلّة الاعتبار، وكثرة الاعتذار”(3).
وبعبارة أخرى، العلل الأربعة لهذا الانهيار هي:
1- ضعف الإرادة.
2- التبذير وتخصيص الميزانيّات المضرّة بالاقتصاد.
3- عدم الاعتبار بالتجارب النافعة وتَكرار الأخطاء.
4- تَكرار الاعتذار اللسانيّ بدلاً من معالجة الأخطاء وجبرانها عمليّاً.
وكما أنّ هذه الأمور علامة انهيار الحكومة، فهي -أيضاً- علامة انهيار الحياة الشخصيّة للإنسان.
ولا يخفى، أنّ السبب الأساسيّ لظهور هذه العِلل المتقدّمة هو ضعف الإرادة في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وسوء الإدارة لدى المسؤولين في الحكومة.
* مؤامرات الأعداء ولزوم التحلّي باليقظة
إنّ يقظة الأمّة هي الحارسة الفضلى لمنجزات الثورة الإسلاميّة، وفي المقابل، إنّ سقوطها في نوم الغفلة يمهّد لهجوم الأعداء عليها.
ودرجة يقظة كلّ أمّة تتناسب مع درجة وعيها، كما أنّ نجاحها في مجاهدة أعداء الدين يتناسب -أيضاً- مع درجة وعيها. وقد بيّن القرآن الكريم درجة عداء أعداء الدين بالبيان الآتي:
1- يدأب الصهاينة والمفسدون اليهود ومن يتّصف بصفاتهم في التآمر باستمرار ضدّ الدين: ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ (المائدة: 13).
2- لا تقتصر دوافع الخيانة لديهم على المطامع السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة وغيرها، بل إنّ هدفهم الأصليّ إطفاء نور الإسلام وإخراج المسلمين منه: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ (البقرة: 217).
3- لا تنحصر أهداف أرباب المدارس الإلحاديّة أو المشركة أو الكافرة نسبيّاً في إخراج المسلمين من حاكميّة الإسلام، بل تشمل السعي لإدخالهم في دائرة اتّباع ضلالات تلك المدارس وإذلالهم، وهذا هو هدفهم النهائيّ: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البقرة: 120).
4- يسخِّرون لتحقيق هذا الهدف المشؤوم الجواسيس والمتسلّلين في أوساط المسلمين: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ (التوبة: 47).
من هذه النقاط الأربعة وغيرها، نعرف سرّ تأكيد الإمام الخميني قدس سره في وصيّته للجميع على أن يتحلّوا باليقظة ومعرفة أخطار الأعداء وطرق نفوذهم وتغلغلهم داخل المجتمع الإسلاميّ، وخاصّة في الوسطين الحوزوي والجامعيّ، مضافاً إلى تأكيده قدس سره الدعوة إلى الجميع للعمل الدفاعيّ الشامل لمواجهة الهجمات الإعلاميّة التي يشنّها الأعداء.
* ضرورة اتّحاد الأمّة
إنّ أهمّ عوامل انتصار الثورة الإسلاميّة -وهي نفسها عوامل بقائها واستمرارها- هي:
1- توفّر الدافع الإلهيّ: ﴿وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ (التوبة: 40).
2- الاتحاد: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (آل عمران: 103)، و﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13).
فتأثير العامل الأول يرجع إلى حقيقة أنّ الثبات للحقّ هو الباقي دائماً، وأمّا الباطل فهو كالزبد الذي يظهر فوق السيل ثمّ سرعان ما يزول.
وتأثير العامل الثاني يرجع إلى لزوم توجّه جميع الطاقات نحو هدف واحد.
والله سبحانه وتعالى يُرجع الاختلاف إلى عدم التعقّل، فيقول: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ (الحشر: 14)، فيما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام بالشفرة الحادّة التي تقطع جذور الدين وتمحو آثاره: “ولا تباغضوا، فإنّها الحالقة”(4)، ويقول أيضاً: “وإنّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقة خيراً ممّن مضى ولا ممّن بقي“(5)، ويصرح بأنّ سبب الاختلاف هو الأمراض الباطنيّة: “وإنّما أنتم إخوان على دين الله ما فرق بينكم إلّا خبث السرائر وسوء الضمائر”(6).
وفي هذا السياق تُطرح مجموعة من الأسئلة، منها:
س1: هل اهتمّ الدين بأمر السياسة كهدف مستقلّ أم هو مقدمة لتحقق السعادة الأخرويّة للإنسان؟
الجواب: إنّ الهدف النهائيّ والمطلق للدين هو تنوير بني البشر، وإيصالهم إلى مقامات الشهود ولقاء الله ودار القرار؛ ولذلك، فإنّ قيامهم بالقسط: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، وحتى العبادات هي أهداف نسبيّة ومتوسّطة للدين، تمثّل وسائل لإيصال الفرد والمجتمع إلى ذلك الهدف النهائيّ. فجميع القضايا العباديّة والسياسيّة هي بحكم السُبُل، وليست الهدف النهائيّ للدين.
نعم، إنّ السياسة أمر ضروريّ وملحوظ في جميع شؤون الإنسان وأحكام الإسلام وأوامره، وبدرجة لا يمكن معها فصل القوانين الدينيّة عن السياسة، كما أنّ السياسة السليمة لا تخرج عن دائرة القوانين الإسلاميّة.
س2: إذا كانت إقامة الحكومة وتطبيق الدين من مسؤولية أنبياء الله، فإنّ ألا يؤدّي ذلك إلى سلب الناس الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع؟
الجواب: هذا الكلام يصحّ إذا لم يكن للناس دور أساسي في القيام بهذه المهمّة، وانحصر القيام بها بالأنبياء، ولكن الحكومة الدينيّة هي حكومة الإمام والأمّة. والشرط الأوّل لتحقُّقها هو حضور الناس ودورهم الفعّال فيها، وقيادة الأنبياء عليهم السلام لها تقوي الشعور بالمسؤولية لدى الناس بدلاً من أن تضعفه، والآيات الكريمة مثل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ (هود: 112)، ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29)، تبيِّن بوضوح دور الناس إلى جانب القائد، ومسؤوليتهم تجاه إجراء دين الله، كما يشهد على تجسيد هذا الشعور الشعبيّ بالمسؤوليّة الحضور الفعّال والمسؤول للناس في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.
س3: إنّ مقتضى جعل الحكومة للدين هو جعله دنيويّاً، الأمر الذي لا ينسجم مع نقائه وقدسيّته، أليس كذلك؟
الجواب: اتّضح الجواب عن هذه الشبهة ضمن الجواب عن الشبهة السابقة، فالدين لم يكن أبداً ذا بُعد واحد، والدين الكامل هو الذي يضمن تعليم الإنسان وتزكيته، والإنسان موجود سائر مهاجرٌ من “نشأة التراب” سالك نحو “نشأة لقاء ربّ الأرباب”، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)؛ ولذلك، يجب على الدين أن يغذّي هذا الإنسان الكادح والسائر في جميع نشآته، والله سبحانه الذي له الدنيا والآخرة، ﴿فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ (النجم: 25)، قد أنزل ديناً يضمن للإنسان دنياه وآخرته، والله سبحانه أقرّ دعاء الداعين لخير الدنيا والآخرة، ﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: 201)؛ لأنّ من غير الممكن الفوز بحسنة الآخرة بغير حسنة الدنيا؛ وذلك لأنّ “الدنيا مزرعة الآخرة”(7).
إذاً، فالدين الإلهيّ يهتمُّ بالدنيا، ولكن هذا الاهتمام لا يعني “دنيويّة الدين”. فالمذموم هو انحصار التوجّه في دائرة الدنيا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ (البقرة: 200).
(*) يراجع: كتاب “ولاية الفقيه – ولاية الفقاهة والعدالة”.
1.نهج البلاغة، الرسالة رقم 53، الفقرة 116.
2.شرح غرر الحكم، ج6، ص450.
3.(م.ن)، ص449.
4.سيرة نهج البلاغة، الخطبة 86، الفقرة 13.
5.نهج البلاغة، الخطبة 176، الفقرة 34.
6.(م.ن)، الخطبة 113، الفقرة 7.
7.بحار الأنوار، ج67، ص225.