لقد منّ الله تعالى على الناس أن جعل منهم الزوجين الذكر والأنثى، وأمرهم أن يعيشوا على الأرض متآلفين بسلامٍ ومحبةٍ، بعد أن جعل من الشرائع والسنن سبيلاً لنجاتهم، والتقوى معياراً للتفاضل بينهم، فالجبلة البشرية فُطرت على الألفة والمؤانسة، غير أن التآلف الإنساني لا يخلو مما يكدر صفوه، حينما تجد المآرب والأطماع طريقها إلى قلب ابن آدم، فتقلب له الأمور وترمي به الأهواء،إلى ما هو خلاف الوضع الطبيعي للحياة المستقرة، فيكون الإنسان المنساق لأهوائه فريسةً للشياطين التي تقعد له كل مقعد فلا تزال تأتيه عن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه ولا يسلم من مخاتلتها إلا من رَحم ربُّك، فهي تنفث الغِلَّ والعداوة بينه وبين الآخرين، فيشتم هذا وينبذ ذاك ويقطع الرحم، ويعتدي على الجار ويخاصم الأهل والأحبة، ولا يقتصر على ذلك وإنما يكون هو ومن على شاكلته عوناً للشياطين.
الصراع الأزلي وجهاد النفس:
إنَّ التحشيد الشيطاني يشكل جبهة مضادة للمجتمع الآمن، تعمل على نخر كيانه ولا ينجم عنها غير العواقب الوخيمة، وهو تفككٌ وتمزيقٌ لا يصب إلا في مصلحة المتربصين به من أعدائه، فالصراع الأزلي بين قوى الخير ، وقوى الشر وعد الله فيها الغلبة لأوليائه، بيد أن هذا الانتصار الحتمي الذي يؤدي بصاحبه إلى الفوز بجنّات النعيم، وإن كان مؤكداً إلا أنه مشترطٌ بالصبر والثبات، والجد والاجتهاد في سبيل الله، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ، ويلزم النجاح في هذا الاختبار التعبئة المستمرة في المواجهة وليس هناك أعظم محطة للتعبئة من شهر رمضان المبارك، حيث تتضاعف فرص الانقضاض على مردة الشياطين، وتتضاءل المنافذ والثغرات التي يتسلل من خلالها الوسواس الخناس إلى قلوبنا، والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُصنّف طبيعة الجهاد في هذا الصراع الأزلي إلى صنفين يجعل أعظمهما الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والذي ينبثق من استعداداته النفسية العالية خوض الجهاد الأصغر في ميدان المواجهة العسكرية مع أعداء الله في ساحات القتال، والاثنان يقعان ضمن نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، وإن تفاوتت فيه القدرات على التغيير إلا أنه يظل واجباً عينيناً على كل من ينطق الشهادتين.
الإصلاح المتدرج:
إنّ الفرد في المجتمع الإسلامي يمثل جزءاً من كيانها وليس له أن يُركنَ نفسه خارج دائرة الصراع والتحديات التي يواجهها مجتمعه، فالتعبئة الروحية والبناء العقائدي وبناء المجتمع وإصلاحه واجبٌ لا يقتصر على أنبياء الأمة ورسلها، أو ما كفله الأئمة الميامين (عليهم السلام) وأعلام الأمة ودعاتها المصلحون، بل هو مسؤولية الجميع( كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)، وكلٌ حسب موقعه وقدراته ومؤهلاته، أما الكيفية التي يُمارس بها هذا الدور، فهو إنما يأتي متدرجاً يبدأ من بناء الذات بناءً رصيناً وتنقيتها مما يعلق بها من أدرانٍ تسفّ بها، فهذا يمثل كما أسلفنا جانب الجهاد الأكبر، واغتنام فرص الاستغفار عند محطات التعبد والتوبة والعودة إلى الله في شهر الله الذي يقول فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (أيها الناس قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة شهره أبرك الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فالشقي من حرم غفران الله) ، كما يصف (صلى الله عليه وآله) كيف أن هناك تسديداً إلهياً يُختَص به الصائمون، فيمدهم بالنصر بأن يجعل الشياطين مغلولةً في هذا الشهر الفضيل، فيقول(صلى الله عليه وآله):(ألا إن أبواب الجنة مفتحة فيه فاسألوا ربكم لا يغلقها عنكم وأبواب النار مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم)، كي تتحقق فيه تربية النفس وترويضها على الطاعة وإصلاح ما فسد منها أو ما فسد بينها وبين الآخرين.
شهر النماء والبركة:
إنَّ المساحة التي يأخذها هذا الشهر المبارك في تربية النفس وإصلاحها تتسع عبر مضاعفة الثواب والحسنات بما ليس له مثيل في غيره من الشهور فهو شهر النماء والخير والبركة في الدنيا الآخرة فيقول (صلى الله عليه وآله):( ومن تطوع فيه بصلاة كتب له براءة من النار ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور ومن كثر فيه من الصلاة ثَقَّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره)، وهذا الإصلاح المتدرج الذي ذكرناه يمتد ليغمر العلاقة الأسرية ويساهم في تنميتها بأداء المرء ما له وما عليه من حقوق وواجبات إزاء أفراد عائلته، فيكون باراً بأمه وأبيه، ودوداً متسامحاً في بيته مع أهله وعياله موسعاً عليهم، حريصاً على أن تكون البسمة والمحبة ولغة التفاهم والألفة هي ما يسود أجواء حياته وتعامله معهم متأسياً من قوله (صلى الله عليه وآله): (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ، كما يؤكد (صلى الله عليه وآله) على السمو الخلقي في التعامل مع الجميع، لما في ذلك من إسهامٍ في تنمية العلاقات الاجتماعية وتعزيزٍ لأواصرها قائلاً( من حسن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)، وأنّ: ( من كفّ فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه) وحين يدعو (صلى الله عليه وآله) إلى الالتفات للفقراء والمساكين بقوله:( وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم)،.. (ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم)،.. (وتحننوا على أيتام الناس يتحنن الله على أيتامكم)، وتتسع هذه المحطة التربوية التي يؤدي فيها الجوع والعطش استشعار حال الضعفاء وفقراء الناس وأيتامهم والتحنن عليهم، لتكون عبر ذلك الانطلاقة نحو التكافل الاجتماعي الذي تنمو فيه الروابط بين كافة الشرائح المجتمعية، وتقرب المسافات بين الطبقات الغنية والمعدمة.
شهر النجاة من النار:
إنَّ المرور بشهر رمضان المبارك وعبور محطته الواسعة في البناء الروحي والإصلاحي للفرد والمجتمع، دون الاغتراف من مناهله العذبة، واكتساب ما فيه من ثراء، يعني فوات فرصة اغتنام عظيم الأجر والثواب، وخسران ما لا يمكن تعويضه إذا فاتنا ، فلا يعلم المرء متى تنتهي به رحلة العمر، فاليوم عملٌ بلا حساب وغداً حسابٌ بلا عمل، وينبغي أن نغتنم الفرص كما يقول مولانا أمير المؤمنين عليٌ (عليه السلام)، فإنها تمر مرّ السحاب.