بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ ( يوسف: 1-3).
* لفتة قرآنيّة
قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْباناً وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82).
تشير الآية إلى قاعدة قرآنيّة لمعرفة المؤمنين في كلّ عصر: اعرفوا قيمةَ إيمانكم بمدى عداء اليهود لكم(1).
* مفردات قرآنيّة
1. المخبتون: من الإخبات لله؛ وقد استعملت هذه المفردة في القرآن الكريم بمعنى الاطمئنان، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (هود: 32). فقد أخبر الله تعالى أنّ الذين:
أ. صدقوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ب. واعتقدوا بوحدانيّته، وعملوا بما أمرهم الله، وانتهوا عمّا نهاهم عنه.
ج. ثمّ اطمأنّوا إلى ربّهم، بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به، فلا يزيغون أو يرتابون؛ هم كالأرض المطمئنّة التي تحفظ ما استقرّ فيها(2) تواضعاً لله(3)؛ وهؤلاء هم أهل البصيرة.
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام: “اللهُمَّ إِنَّ قُلُوبَ المُخبِتينَ إِلَيكَ والِهَةٌ”، كما أنّها وردت في زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام: “وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي عِلِّيِّينَ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِيِّينَ… فَجَمَعَ اللهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ رَسُولِهِ وَأَوْلِيائِهِ فِي مَنازِلِ الْمُخْبِتِينَ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ”.
2. الكَلّ: قال تعالى: ﴿وهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ (النحل: 76).
أصل (الكَلّ) من الضعف والإعياء(4)، والمقصود منه في هذه الآية أنّه كان عالة على سيّده وحِملاً ثقيلاً عليه، لا يبعثه سيّده إلى جهة إلّا ورجع خائباً(5)، ولا يرجى من سعيه خير. والمعنى أنّه لا يمكن لخير أن يصل من جهة الضعف لأنّها جهة تُثقل الظهر بعدم القدرة على تحمّل المسؤوليّة.
* سبب نزول
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ (النحل: 91).
نزلت هذه الآية في الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام وتعاهدوا عليه، فرأى بعضهم إمكانيّة التنصّل ونقض البيعة؛ لقلّة المسلمين وإمكاناتهم، وكثرة المشركين وقوّتهم، ممّا يجعل من هذا التحالف غير ذي بال، فنزلت الآية، وخاطبهم الله بأنّ هذه البيعة لله: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾، فلا تحملنّكم قلّة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة بعد توكيدها. وتجري هذه الآية في تعزيز الوفاء بالمؤكّد، فإذا وقع منكم عهد لله أو للناس فحافظوا على هذا العهد وأتمّوه، وكذلك إذا وقعت منكم أيمان صحيحة سليمة فلا تبطلوها وتنقضوها، فالله هو الحافظ؛ وفيه تهديد لمن لم يفِ بأيمانه(6).
* إعجاز قرآنيّ
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء: 30).
توصّل العلماء إلى أنّ خيوطاً كونيّة مضغوطةً مكثّفةً، أشبه بقطعة نسيج من القماش، قد أخذت بالتباعد، في عمليّة تشبه (الفتق)؛ لتنمّ هذه العمليّة عن نظامٍ كونيّ مدهش ودقيق ومنظّم للغاية. وقد يختلف العلماء اليوم حول نظريّة الانفجار العظيم، لكنّهم متأكّدون من وجود هذا النسيج المحكم الذي تتباعد خيوطه شيئاً فشيئاً، وهو ما يسمّى اليوم بـ (توسّع الكون)، الذي يفترض نظاماً في عمليّة تباعد أجزاء الكون.
ما يجدر ملاحظته هو أنّ التعبير القرآنيّ دقيق جدّاً، إذ يعبّر بـ (رتقاً) عن الخيوط والنسيج ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ (الذاريات: 7) في مورد قرآنيّ آخر، كما تشير الآية إلى مرحلة الانفصال الكونيّ بـ (ففتقناهما)، إذ كانت عمليّة انفصال الخيوط الكونيّة بحسب ما توصّل إليه العلماء، حركةً منظّمةً لمادة الكون في التباعد، وليس انفجاراً يولّد تناثراً عشوائيّاً، فالفتق غير الانفجار(7).
وفي الآية استنكارٌ على الكافرين؛ لما يحمل هذا الكون من إشاراتٍ واضحة على خالقه عزّ وجلّ.
* مثل قرآنيّ
قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل: 92).
ضرب الله مثلاً واقعيّاً للنهي عن النكث بالعهود والأيمان بامرأة عاشت في قريش، وعُرفت في زمن الجاهليّة بين قومها. كانت على رأس عاملات ينسجن لها في كلّ صباح كميّة من الصوف والوبر ويغزلنه إلى أن ينتصف النهار، فإذا استحكمت عُقده (من بعد قوّة)، وأنهين عملهنّ، أخذت تأمرهنّ بحلّ ونقض ما غزلن عقدةً عقدة حتّى يستحيل تلّة من الخيوط التالفة (أنكاثاً)، حتّى عُرفت بلقب حمقاء قريش(8).
مغزى التشبيه هو تعزيز الالتزام بكلّ عهد وقسم أُحكم وأُبرم مع الله وباسمه ممّا ينعقد عليه القلب (من بعد قوّة)، فهو مؤثّر على قدر هذا الاستحكام، ونقضه أبعد من حدود الحمق في عُرف الجاهليّة والعبث لأنّه على خطر، إذ إنّ تبعات العبث بِعُرى الإيمان بعد استحكامها في أداء المسؤوليّة والتكليف إزاء المواثيق والعهود على خطر في العُرف الشرعيّ.
* أدب قرآنيّ
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ (مريم: 4).
من جماليّة التعبير الفنيّ القرآنيّ تصوير مشهد الشيب في هذه الآية الشريفة، بهذه الحركة التخييليّة السريعة التي تتناول الرأس في لحظة(9)، وقد منحت الشيب في الرأس حركةً كحركة اشتعال النار في الهشيم، كأنمّا العمر انقضى بسرعة هذا الاشتعال. فهذا التصوير من جماله وبلاغته منح الحياة للساكن.
(1) السيّد عبّاس علي الموسويّ، أوضح البيان في تفسير القرآن.
(2) الراغب الأصفهاني، مفردات القرآن، ص 35.
(3) السيّد عبّاس علي الموسويّ، مصدر سابق.
(4) الراغب الأصفهاني، مصدر سابق، ص 20-21.
(5) السيّد عبّاس علي الموسويّ، مصدر سابق.
(6) الشيخ الشيرازي، تفسير الأمثل، ج 5، ص 312.
(7) الكحيل، الفتق الكوني: حقائق جديدة، مقال على موقع: www.kaheel7.com
(8) الشيخ الشيرازي، مصدر سابق، ج 7، ص 107.
(9) السيّد قطب، التصوير الفنّي، ص 35.