في بداية الدعوة كان المسلمون في مكّة يتعرّضون لأذى المشركين كثيراً، وكانوا يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين مشجوجٍ ومضروبٍ يشكون إليه ما يعانون من قهرٍ وأذى، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: “اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال”[1]. واستمرّ الحال كذلك حتّى هاجر صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل اللّه عليه قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾[2]. فبعد طول انتظارٍ أذن الله تعالى – لمن يتعرّض لعدوان الأعداء – بالقتال والجهاد، والسبب في ذلك أنهم قد وصلوا في نهاية الأمر إلى مرحلة لا يمكنهم فيها دفع الأذى والظلم عنهم إلّا بالجهاد والقتال.
إذاً فجهاد المظلوم ضدّ الظالم – الذي يريد محو ذكر الله وجعل الناس عبيداً له – من الحقوق الطبيعيّة التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته كما سوف يأتي معنا في حقِّ الدفاع. ولقائلٍ أن يقول: لماذا أُجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟! ألم يكن بالإمكان تحقيق الأهداف الإسلاميّة باللجوء إلى العقل والحوار والمنطق؟!
ولكن هل يمكن أن يكون الحوار والمنطق مفيداً لظالمٍ ترَك لغة الحوار واستبدل اللسان بالسنان وراح يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنبٍ اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد اللّه، وتراه يستولي على منازلهم وأموالهم، ولا يلتزم بأيّ قانونٍ ومنطقٍ تجاههم؟! فهل يمكن ردع هؤلاء الطغاة بغير لغة السلاح والقوّة بعد استنفاد كلّ الوسائل السلمية؟!
وبعد الإذن بالجهاد أصبح الجهاد واجباً وتكليفاً إلهيّاً على كلّ مؤمنٍ مستطيع: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[3].
فقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إشارةٌ إلى أن القتال حكمٌ وتشريعٌ إلهيٌّ حتميٌّ ومقطوع، وهو فرض على كافّة المؤمنين بدليل أن الخطاب متوجّه إليهم جميع، إلا من كان معذوراً.
والقتال المكتوب يستبطن في داخله شدّةً لا بدّ منها على المؤمنين، فالقتال مستلزمٌ لإفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، لاقترانه بأنواع المشقّات والمصائب، وغير ذلك ممّا تكرهه النفس الإنسانية وتجده شاقّاً ومتعباً.
وبعد إعلان تشريع التّكليف الإلهيّ بالجهاد والقتال وعدم جواز الرّضوخ للظّالمين من الكفّار والمشركين وغيرهم مهما كانت الظروف قاسيةً وصعبة، حتّى لو اضطرّ المجاهد المسلم الواحد أن يقاتل العشرة في المرحلة الأولى، ويقاتل الاثنين بعد أن خفّف الله تعالى عنهم.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[4].
هذا إضافة إلى الآيات التي حثَّت على الإعداد الإيمانيّ والبنيويّ للجهاد والقتال، وتهيئة المسلمين لما يمكن أن يُصابوا به من الخسائر والأذى والألم بسبب القتال في سبيله. فالواضح من هذا التّكليف الإلهيّ في القرآن، ومن سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام وأبي عبد الله الحسين عليه السلام في الجهاد والحرب والقتال، أنّ الجهاد يرتبط بالدِّفاع عن الدِّين والمقدَّسات والأعراض والكرامات حتّى لو كانت التَّضحيات كبيرة وغالية. وفي كلّ الحالات يجب أن يلبّي المجاهدون نداء الدّفاع عن الحقّ والقتال في سبيل الله حتّى لو أدّى ذلك إلى المشقّة وترك الأعزّاء، أو كرهته النّفوس التزاماً وتعبّداً بالتّكليف الشرعيّ الإلهيّ.
التربية الجهادية، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 19، ص 157.
[2] سورة الحج، الآيتان 39 – 40.
[3] سورة البقرة، الآية 216.
[4] سورة الانفال، الآيتان 65-66.