الشيخ أسد حيدر
لا شك ان الإمام الصادق نشأ في وسط مجتمع لا يتصل بآل البيت إلا من طريق الحذر و التكتم لشدة المراقبة التي تحوط بهم من السلطة الأموية، و شاهد طلاب العلم يتصلون بمدرسة جده و أبيه و هم بأشد حذر، لأن ذلك الدور لا يستطيع أحد أن يتظاهر بالاتصال بآل محمد و من عرف في ذلك فإنما مصيره القبر أو ظلمة السجن إلى حيث الأبد.
نشأ الصادق في عصر تتنازع فيه الأهواء، و تضطرب فيه الأفكار و طغت فيه موجة الإحن و الأحقاد، و تلاطمت فيه أمواج الظلم و الإرهاب.
و تقرب الناس إلى ولاة الأمر بالوشايات و الاتهامات فلا حرمة للنفوس و لا قيمة للدين و لا نظام يشمل الرعية، بل هي فوضى و الأمراء يحكمون بما شاءوا و الرعية بين أيديهم ألعوبة لأغراضهم.
وأشد الناس بلاءاً أنصار آل محمد و شيعتهم و اتخذ خصومهم شتم عليّ سنة يتمون به فرضهم، فلا يدخل الداخل إلى مسجد و لا معبد و لا مجلس و لا حلقة علم إلا و يسمع تلك العبارات التي يعبر بها أولئك القوم عن سوء سريرتهم، و لا يكاد يصغي .(علي السلام)لخطيب أو قصاص أو واعظ إلا و كانت براعة استهلاله شتم علي
فكان آل محمد يلاقون تلك المشاق ويواجهون تلك المصاعب بقلوب مطمئنة بما وعد اللّه الصابرين، و كل هذه الأمور شاهدها الإمام الصادق في نشأته، أو أخذ عنها من أبيه صورة واقعية بعد حدوثها حتى شمله العسف الأموي عند ما جيء به مع أبيه الباقر إلى الشام مقر الظالمين و موطن البغاة. فبعين اللّه ما لقيت الأمة الإسلامية و ما لقي آل محمد الذين هم حملة العلم و مبلغي رسالات الإسلام.
أدرك الإمام الصادق (صلوات اللّه عليه) ثلاث سنين من خلافة عبد الملك، وتسع سنين وثمانية أشهر من خلافة الوليد بن عبد الملك، وثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام من خلافة سليمان، وسنتين وخمسة أشهر من خلافة عمر بن عبد العزيز، وأربع سنوات وشهرا من خلافة يزيد بن عبد الملك، وعشرين سنة من خلافة هشام بن عبد الملك، وسنة واحدة من خلافة الوليد بن يزيد، وستة أشهر من خلافة يزيد بن الوليد، وبعده لم يبق خليفة للأمويين بعينه لكثرة الاضطرابات حتى زال ملكهم في سنة 132 ه .
كل هذه الأدوار شاهدها الإمام الصادق، و هو يعيش و أهل بيته بتلك الدائرة الضيقة محاطا بالرقابة، وبتلك الاتهامات التي يحوكها ضده المتقربون لخصوم آل محمد، و هو يرى بين آونة و أخرى مصارع زعماء الشيعة و سجن آخرين و مطاردة السلطة لبقية السيف منهم، و كان يطرق سمعه مدة تسع عشرة سنة شتم جده علي “عليه السلام” وانتقاص آله، وكان يرى بعض ولاة المدينة يجمع العلويين يوم الجمعة قريبا من المنبر يسمعهم شتم علي “عليه السلام” وانتقاصه، حتى ولي عمر بن عبد العزيز سنة 99 ه فرفع السب عن علي “عليه السلام”.
أما بالنسبة لعصر الإمام الصادق “ع”
فكانت نشأة الإمام الصادق نشأة خشونة و ملاقاة مصائب، و خوض غمرات محن و بلاء، من ولاة أضاعوا الحق و ظلموا الأمة، واتبعوا شهواتهم وأعلنوا العداء لآل محمد “صلى الله عليه وآله” ومع هذا كله فإنه كان لا يمتنع من الجهر بالحق وإرشاد الناس وتحذيرهم من مخالطة أولئك الظلمة، وكان ينهى عن المرافعة إليهم وينهى عن الاختلاط بهم وإعانتهم في شيء، والتولي لهم وقبول أي عمل منهم،
وفي أيامه كان خروج زيد بن علي في الكوفة و لما قتل زيد كان يؤبنه بكلماته البليغة، و يلعن قاتله و ذلك في أيام هشام بن عبد الملك ذلك الجائر الذي أظهر العداء لآل أبي طالب بصورة إرهابية بعد قتل زيد، و أمر عماله بالتضييق عليهم، وأن تمحى أسماؤهم من ديوان العطاء و ملأ منهم السجون، و كتب لعامله يوسف بن عمر الثقفي بقطع لسان الكميت و يده لأنه رثى زيدا، كما منع العطاء عن أهل المدينة لاتهامه إياهم بالميل إلى زيد، و ألزم آل أبي طالب بالبراءة من زيد، إلى آخر ما هنالك من فجائع و أمور كانت تحوط بالإمام، و تنكد عيشه، و لكن عناية اللّه قضت بأن يزداد شعور الناس نحو آل محمد مع تلك المحاولات التي اتخذها الأمويون، فكانت هناك اجتماعات و مؤتمرات سرية سعيا إلى انقلاب عام يزيل مملكة الأمويين و تحويلها لآل محمد، و بانتشار الدعاة لهذه الفكرة و حصول خلاف بين الأمويين أنفسهم اضطربت الدولة، و دب في جسمها الضعف، و أحاطت بها عوامل الانهيار، فكانت فترة سعيدة و لكنها كانت فترة مؤلمة في الوقت نفسه، إذ كان الإمام الصادق يرى ما يصيب الدين الإسلامي من وهن و تشويه و انتهاك فانبرى لفتح أبواب مدرسته، و ليقوم بما يجب عليه من توجيه الناس، و بث الأحكام و تعاليم الدين فهو بين شيخوخة الدولة الأموية، و طفولة الدولة العباسية قام في عصر ازدهار العلم لتعليم الناس حتى عد تلامذته أربعة آلاف رجل.
المصدر: مقتبس من كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة