إنّ المأمون في مقامرته السياسية الكبرى المتعلقة بولاية العهد، فضلًا عن أنّه لم يحصل على شيء، فإنّه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقّى له. وبعد مضي سنة على تسلّم الإمام عليه السلام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الّذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة، ولكي يُعوِّض عن هذه الهزيمة ويَجبُر خطأه الفاحش، وجد نفسه مضطرًّا – بعد أن أنفق كلّ ما لديه، واستنفذ كلّ الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الّذين لا يقبلون الصلح، أي أئمّة أهل البيت عليهم السلام – إلى أن يستخدم الأسلوب نفسه الّذي لجأ إليه دومًا أسلافُه الظّالمون والفجّار، أي القتل.
كان من الواضح عند المأمون أنّ قتل الإمام عليه السلام الّذي يتمتّع بهذه الموقعيّة العالية والمرتبة الرّفيعة، ليس بالأمر السّهل. والقرائن التاريخيّة تدلّ على أنّ المأمون قام بعدّة إجراءات وأعمال قبل أن يُصمّم على قتل الإمام عليه السلام، لعلّه من خلالها يُسهّل أمر قتل الإمام عليه السلام، ويحدّ من خطورته وحساسيّته. ولأجل ذلك، لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة عن لسان الإمام، كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظنٌّ كبيرٌ بأنّ نشر الشائعة الّتي تقول إنّ عليَّ بن موسى الرضا عليه السلام يعتبر كلّ النّاس عبيدًا له، بهذا الشكل المفاجئ في مرْو، لم يكن ممكنًا، لولا قيام عمّال المأمون بنشر هذه الافتراءات.
وحينما نقل أبو الصّلت هذا الخبر للإمام، قال الإمام عليه السلام: “اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ شَاهِدٌ بِأَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا سَمِعْتُ أَحَداً مِنْ آبَائِي عليه السلام قَالَهُ قَطُّ، وَأَنْتَ الْعَالِمُ بِمَا لَنَا مِنَ الْمَظَالِمِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَّة، وأنَّ هَذِه مِنْهَا…”[1].
إضافة إلى هذا الإجراء، كان تشكيل مجالس المناظرات مع أيّ شخص لديه أدنى أمل في أن يتفوّق على الإمام، واحداً من الإجراءات الّتي مارسها المأمون. ولمّا كان الإمام عليه السلام يتفوّق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في البحوث كافّة، كان يذيع صيته بالعلم والحجّة القاطعة في كلّ مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكلّ متكلّم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام، لعلّ أحدًا منهم يستطيع أن يغلب الإمام عليه السلام. وكما تعلمون، إنّه كلّما كانت تكثر المناظرات وتطول، كانت القدرة العلميّة للإمام عليه السلام تزداد وضوحًا وجلاءً. وفي النّهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة، وحاول أن يتآمر لقتل الإمام عليه السلام، كما تذكر الروايات، من خلال حاشيته وخدم الخليفة. وفي إحدى المرّات وُضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران)، لكن هذا لم يكن نتيجتُه إلا إيمان الجلاوزة والسجّانين أنفسهم بالمقام المعنويّ للإمام عليه السلام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النّهاية وسيلة إلّا أن يُسمّم الإمام بنفسه، من دون أن يُكلِّف أيّ أحد بذلك، وهذا ما قام به فعلًا. ففي شهر صفر من سنة 203 هـ، أي بعد سنتين تقريبًا من خروج الإمام عليه السلام من المدينة إلى خراسان، وبعد سنة ونيّف من صدور قرار ولاية العهد، قام المأمون بجريمته النكراء الّتي لا تُنسى، وهي قتل الإمام عليه السلام.
وفي نهاية المطاف، عاد المأمون ليختار الأسلوب نفسه الّذي سلكه أسلافه من قبله، وهو قتل الإمام عليه السلام. فالمأمون الّذي سعى جاهدًا لتكون صورته حسنة ومقدّسة، وليتّصف بأنّه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في تلك المزبلة الّتي سقط فيها كلّ الخلفاء السابقين له، أي انجرّ إلى الفساد والفحشاء، ووُسمت حياته بالظّلم والكبر..
ويُمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون على مدى 15 عامًا بعد حادثة ولاية العهد، تكشف ستار الخداع والتّظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر، مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يُحضر المغنّيات أيضًا إلى قصره، وكان لديه مغنٍّ خاصّ يُدعى إبراهيم بن مهديّ. وقد عاش مرفّهًا مسرفًا حتّى أنّ ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدرّ.