تُعتبر الطاعة ركيزة أساس في أي تنظيم. فكل تنظيم، مهما كان نوعه، يجب أن يكون له قائد، ويجب أن يُطاع القائد، وإلا فليس هناك أي معنى لقيادته.
فالتسليم للمعصوم عليه السلام هو قرار يُتّخذ بعد عملية تفكير، والتسليم هو نتيجة عقلية يصل إليها الإنسان البصير بعد استعراض مقدّمات مهمّة جداً. فالذي يصل إلى مرحلة التسليم يكون ممّن هداه الله، وأرشده إلى حقيقة الأمور وأصلها، وأزاح عن قلبه غشاوة حبّ النفس والنظر إليها. فالمُسلِّم إنسان أدرك حقيقة محدودية معرفته، وأدرك حقيقة أنّه لا بدّ من وجود وسيلة بين عالم الحضور وعالم الغيب، ولا بدّ أن تكون هذه الوسيلة عالمة بعلم إلهيّ واسع جداً، ولا بدّ أن تكون هذه الوسيلة حكيمة ومسدَّدة من الله عزّ وجلّ، لذلك يجب عليه أن يتبع هذه الوسيلة التي هي المعصوم، وأنّ يُسلِّم لها مطلقاً. أمّا الذي لم يصل إلى مرتبة التسليم، فهو إمّا جاهل بجهله وبمحدودية علمه، أو أنَّه عالم بجهله ولكنّه لم يُهدَ إلى من يملك العلم والحكمة.
كما أن التسليم لا يمنع الإبداع والتفكير، بل يجب أن يُحفّز التفكير والإبداع. فالمعصوم يُحدد الهدف ويرسم الطريق، ويطلب من الأفراد أن يجتهدوا ويبدعوا في تحقيق الهدف والوصول إلى المطلوب.
وأبرز مصداقٍ للتسليم والطاعة هو تسليم الامام علي عليه السلام لأمر الرسول حين أمره بالمبيت في فراشه، وقد خُلِّد هذا الموقف في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[1].
وقد كان التسليم صفة بارزة في شخصية أصحاب الامام علي عليه السلام، مَعْلَماً بارزاً من معالم التنظيم الشيعيّ. وسنعرض بعض النماذج من حياة أصحاب الأمير عليه السلام:
روي أن عمرو بن الحمق الخزاعيّ قال لأمير المؤمنين عليه السلام في وقعة صفين: والله، ما جئتك لمال من الدنيا تعطينيه، ولا لالتماس السلطان ترفع به ذكري، إلّا لأنّك ابن عمّ رسول الله، وأولى الناس بالناس، وزوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وأبو الذرّية التي بقيت لرسول الله، وأعظم سهماً للإسلام من المهاجرين والأنصار. والله، لو كلّفتني نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي أبداً حتى يأتي عليّ يومي، وفي يدي سيفي أهزّ به عدوّك، وأقوّي به وليّك، ويُعلي به اللهُ كعبك، ويفلج به حجّتك، ما ظننت أنّي أدّيت من حقّك كلّ الحقّ الذي يجب لك عليّ. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: “اللهم نوّر قلبه باليقين، واهده إلى الصراط المستقيم، ليت في شيعتي مائة مثلك”[2].
وعن منصور بن بزرج قال: “قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: ما أكثر ما أسمع سيّدي ذكر سلمان الفارسيّ، فقال: “لا تقل سلمان الفارسيّ، ولكن قل سلمان المحمديّ. أتدري ما كثرة ذكري له؟”، قال: “لثلاث خلال: إحداها إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السلام على هوى نفسه، والثانية: حبّه للفقراء واختياره إيّاهم على أهل الثروة والعدد، والثالثة: حبّة للعلم والعلماء. وإنّ سلمان كان عبداً صالحا حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين”[3]. فسلمان لم يكن فقط مطيعاً لأمير المؤمنين عليه السلام، بل كان مؤثراً هوى أمير المؤمنين عليه السلام على هوى نفسه، وهذه أعظم مراتب الطاعة والتسليم.
ورويَ عن أبي الجارود أنه قال: قلت للأصبغ بن نباتة: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم (يريد علياً عليه السلام)؟ قال: ما أدري ما تقول، إلّا أن سيوفنا كانت على عواتقنا، فمن أومأ إلينا ضربناه بها”[4]. وسُئل الأصبغ: كيف سمّاك أمير المؤمنين عليه السلام وأشباهك بشرطة الخميس؟ فقال: إنّا ضمنّا له الذبح، وضمن لنا الفتح”، أي شرطنا له القتال معه حتى النصر أو الشهادة، وشرط لنا الجنّة وضمنها[5].
وتتّضح هنا أسمى درجات التسليم للإمام والانقياد له بكل ما يقوله.
التربية الولائية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة البقرة، الآية207.
[2] المفيد، الاختصاص، ص14 – 15.
[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج22، ص327.
[4] م. ن، ج42، ص150.
[5] م. ن، ج42، ص181.