إذا قبلت “إسرائيل” وقف إطلاق النار ودخلت في مفاوضات حول الأسرى، فستكون المقاومة الفلسطينية قد انتصرت بالفعل، رغم كل ما حدث من دمار، وأصبح بمقدورها أن تفرض شروطها منذ الآن فصاعداً.
ربما لم يحظَ أي خطاب سياسي من قبل، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بمثل هذا القدر من الاهتمام الذي حظي به خطاب السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الماضي. ولأن الإعلان عن موعده تم قبل أسبوع من إلقائه، فقد عاش الملايين حالة من الترقب والقلق، لأنهم توقعوا أن يعلن فيه حرباً شاملة على “إسرائيل”، تضامناً مع مقاومة فلسطينية تشن عليها حرب استئصال، ومع شعب فلسطيني تشن عليه حرب إبادة.
وما إن بدأ نصر الله في إلقاء خطابه حتى عكفت معظم الدوائر السياسية والأمنية والفكرية في العالم على متابعته بانتباه شديد وتحليل كل كلمة يتفوه بها ورصد كل حركة تصدر عنه. ولم يكد ينتهي منه حتى شرعت معظم مراكز التفكير في العالم، ومعهم كبار الكتاب والصحافيين، في التعليق عليه وتقديم قراءاتهم الخاصة لما تضمنه من أفكار وما ورد فيه من مواقف وإيحاءات قد تساعد على استشراف المستقبل.
لقد صدرت في العالم العربي تعليقات على هذا الخطاب وتحليلات له يصعب رصدها. ورغم حساسية وخطورة اللحظة التي تمر بها المنطقة، ودقة الأفكار التي تناولها خطاب اتسم بقدر كبير من العقلانية والرشادة، فلا تزال قطاعات واسعة من النخب السياسية والفكرية العربية عاجزة عن تبني رؤية موضوعية تجاه حزب الله وقيادته، رغم أن الحزب تمكن من أن يصبح لاعباً أساسياً في الساحتين العربية والإقليمية، ورغم تمتع قيادته بكاريزما قد لا يكون لها نظير في عالمنا العربي.
لا تزال هذه القطاعات ترى أن حزب الله لا يعدو كونه “تكويناً شيعياً طائفياً لا يتمتع بأي قدر من الاستقلالية تجاه إيران التي أنشأته ومدته بالسلاح والمال، وأن مواقفه تجاه إسرائيل ليست نابعة بالضرورة من إيمان بعدالة القضية الفلسطينية أو من إحساس بمظلومية الشعب الفلسطيني، ولكن من رغبته في استغلال معاناة الشعب الفلسطيني وتوظيفها لخدمة أهداف إيران التوسعية في المنطقة”.
لذا، كانت هذه القطاعات جاهزة مسبقاً لتوجيه أعنف الانتقادات إلى خطاب نصر الله، بصرف النظر عن مضمونه؛ فحين تضمن الخطاب إشارة إلى أن عملية “طوفان الأقصى” كانت قراراً حمساوياً خالصاً، فُسر ذلك بأنه محاولة لتبرير التخلي عن حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى وتركها تقاتل وحدها في الميدان.
وحين أشار إلى أن حزب الله يشارك بالفعل في عمليات ميدانية ضد “إسرائيل” منذ يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر، فُسِر ذلك بأنه محاولة لتبرير الإحجام عن شن حرب شاملة ومفتوحة للرد على وحشية الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، ولم يتورع البعض عن اتهام نصر الله بأنه يتظاهر بالمشاركة في الحرب من خلال ممارسة لعبة خادعة.
ولو كان نصر الله قد أعلن في خطابه بدء هجوم شامل على الكيان الصهيوني، لسارعت هذه القطاعات أيضاً إلى انتقاده واتهامه بالتهور وتعريض لبنان والمنطقة كلها لأخطار جسيمة من أجل تحقيق مصالح إيرانية.
لا تختلف وجهة النظر هذه تجاه حزب الله عن وجهة نظر قطاعات أخرى تصر على إلقاء اللوم على حماس وتحميلها مسؤولية ما يحدث من مجازر للشعب الفلسطيني، وكلاهما يبني مواقفه استناداً إلى أسس وحسابات طائفية أو أيديولوجية فجة.
إنّ أي تقييم موضوعي لفحوى خطاب نصر الله، ولما انطوى عليه من رسم للمعادلات التي تحكم الصراع المشتعل الآن في المنطقة ولاحتمالات تطورها في المستقبل، ينبغي أن يُبنى في تقديري على تحليل علمي لدلالات ما عبر عنه من مواقف تجاه 4 مسائل أساسية:
المسألة الأولى: تتعلق بالحرص على تأكيد فلسطينية عملية “طوفان الأقصى”، رؤيةً وتصوراً، وعلى عدم مشاركة كل من حزب الله ومحور المقاومة في أي مرحلة من مراحل تخطيطها أو تنفيذها.
المسألة الثانية: تتعلق بالأسباب التي استند إليها نصر الله لتبرير إحجام الحزب عن التدخل بكل إمكانياته في المرحلة الحالية، والاكتفاء بدلاً من ذلك بتنشيط جبهة الشمال اللبنانية وتحويلها إلى ما يشبه حرب استنزاف.
المسألة الثالثة: تتعلق بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة هي التي تدير بنفسها الجولة الحالية من الصراع، وإصراره في الوقت نفسه على التأكيد على عدم خشيته من مواجهتها إذا تطلبت الضرورة، وامتلاكه الوسائل التي تسمح له بخوض هذه المواجهة.
المسألة الرابعة: تتعلق بالخطوط الحمر التي رسمها نصر الله، والتي يؤكد أن تجاوزها سيؤدي إلى دخول الحزب بكل ثقله في الحرب المشتعلة حالياً.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، تشير دلائل كثيرة إلى أن نصر الله لم يكن فعلاً على علم مسبق بحجم العملية التي تنوي حماس القيام بها ولا بتوقيتها، فلو كان يعلم بها مسبقاً لكان الأولى، منطقياً، الاتفاق معه حول طبيعة المشاركة المطلوبة منه وتوقيتها، سواء في حالة نجاح العملية أو فشلها، الأمر الذي لم يرشح أي دليل على حدوثه.
لو كان حزب الله يريد التنصل والهروب وتحميل حماس وحدها مسؤولية ما وقع وما ترتب عليه من ردود أفعال، لما أشاد بهذه العملية واعتبرها صحيحة وضرورية في توقيتها وأهدافها، وفذة وبطولية في تخطيطها وتنفيذها، ولما أكد أنها تثير الإعجاب وتستحق أن تنحني لها الهامات والقامات إجلالاً وتبجيلاً، ولكان تقاعسه عن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه مثيراً للانتقاد، وربما للغضب، من جانب قيادات حماس، وهو ما لم يحدث.
صحيح أن أوساطاً رسمية في حماس عبرت في تصريحات إعلامية عن خيبة أملها لأنها توقعت من حزب الله أن يقوم بأكثر مما قام به حتى الآن، لكن هذه التصريحات لا تعبر بالضرورة عن موقف قيادة حماس، فضلاً عن كونها تصريحات عن اجتهادات تقبل الصحّ والخطأ بطبيعتها. دليلنا على ذلك أن موقف حزب الله من الحرب الشاملة مع “إسرائيل” ما زال مفتوحاً على كل الاحتمالات، وبالتالي قابل للتطور وفق حسابات لا يملك أحد سواه تحديدها.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أنَّ التأكيد على فلسطينية “طوفان الأقصى” يعكس حرصاً على خدمة القضية الفلسطينية نفسها، ويساعد على إلقاء الضوء على ضخامة المظلومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، لتبين لنا أن موقف حزب الله من هذه المسألة كان صحيحاً ومبرراً تماماً.
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، يلاحظ أن الأسباب التي ساقها نصر الله لتبرير قراره بفتح اشتباك محدود على الجبهة اللبنانية بدلاً من الدخول في مواجهة شاملة مع “إسرائيل” كانت جميعها مقبولة ومقنعة، وخصوصاً أن قراره هذا ساعد بالفعل على إثارة الشكوك في النيات الحقيقية لحزب الله وإحاطتها بأكبر قدر من الغموض البناء، ما أجبر “الجيش” الإسرائيلي على حشد قسم كبير من قواته على الجبهة الشمالية، وساهم بالتالي في تخفيف الضغط، ولو نسبياً، عن الجبهة الجنوبية.
ولا شك في أن دخول حزب الله في حرب شاملة منذ البداية كان سيؤدي بالضرورة ليس إلى تعريض لبنان لخطر كبير فحسب، ولكن أيضاً تثبيت الادعاءات الغربية بأن إيران وحلفاءها، وليس الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، هم السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة، وهم من خططوا وشاركوا في “طوفان الأقصى”.
ولم يكن من المستبعد أن يؤدي اشتعال مواجهة إقليمية كبرى في المنطقة إلى إطلاق يد “إسرائيل” أكثر في غزة، وليس بالضرورة كبح جماحها وتخفيف العبء الواقع على المدنيين هناك، كما قد يعتقد البعض.
وفيما يتعلق بالمسألة الثالثة، فلا شك في أن امتلاك حزب الله قوة عسكرية كبيرة كان من بين أهم العوامل التي دفعت الإدارة الأميركية إلى المسارعة للتدخل لإنقاذ “إسرائيل” المهددة بخطر وجودي بالفعل، ربما لأول مرة في تاريخها.
لذا لم تكتفِ الولايات المتحدة بإرسال قوة بحرية ضخمة ترابط قرب الشواطئ الفلسطينية أو بفتح جسر جوي من الإمدادات العسكرية لـ “إسرائيل”، إنما قام الرئيس الأميركي بنفسه، وكذلك وزير دفاعه ووزير خارجيته، بزيارة “إسرائيل”، وراح كبار الضباط الأميركيين يتدفقون إليها للمشاركة بأنفسهم في التخطيط للعمليات العسكرية التي تعد لمواجهة مختلف المواقف المحتملة.
ورغم عمق الانغماس الأميركي في إدارة الأزمة الحالية، فعندما يقول زعيم حزب الله إن ذلك لا يخيفنا، وإن لدينا من الوسائل ما يكفي لمواجهته، فلا شك في أن هذا القول يضفي على الصراع الدائر في المنطقة أبعاداً عالمية وجيوسياسية، وهو عامل من شأنه إلقاء ضوء ساطع على عمق الارتباط القائم بين ما يجري في المنطقة وما يجري من تحولات على صعيد النظام العالمي ككل.
وأخيراً، فيما يتعلق بالمسألة الرابعة، وهي الأهم، فقد أكَّد الأمين العام لحزب الله أنه لن يسمح بهزيمة المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حماس، ما يعني أنه يلزم نفسه بالتدخل بكل ما يملك من أدوات إذا عجزت المقاومة الفلسطينية عن الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، وكذلك بمتابعة كل ما يجري من تطورات على الجبهة الشمالية، ما يعني أنه سيرد بقوة على أي تصعيد إسرائيلي على هذه الجبهة. ولأنها خطوط حمر لم تختبر بعد، يتوقع أن تتكرر إطلالات السيد حسن نصر كثيراً في المرحلة المقبلة، وأن يصبح صمام الأمان في أي تطورات مستقبلية.
وإذا قبلت “إسرائيل” وقف إطلاق النار ودخلت في مفاوضات حول الأسرى، فستكون المقاومة الفلسطينية قد انتصرت بالفعل، رغم كل ما حدث من دمار، وأصبح بمقدورها أن تفرض شروطها منذ الآن فصاعداً. أما إذا انتهزت “إسرائيل” الفرصة وقررت التصعيد، فستتحول المواجهة إلى حرب إقليمة واسعة النطاق. وفي كلتا الحالتين، سيكون دور حزب الله بقيادة زعيمه حسن نصر الله محورياً في تحديد مستقبل المنطقة.