قد يستغرب البعض أن مشروع ما بعد الحداثة ومفرداته لا علاقة له بخلق التنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة وغيرها، لكن الحقيقة أنه ذو علاقة وثيقة مضطردة، إذ يترابط تنظير ما بعد الحداثة بالمشروع الداعشي الدموي ترابطا وثيقا ولا ينفك أحدهما عن الآخر.
فمن الأعمدة والمرتكزات الأساسية لمرحلة ما بعد الحداثة الإلحادي، هدم الأسرة أولا، وثقافة الجندر والنوع الاجتماعي سيئة الذكر والصيت، وقطع صلة المجتمعات بتاريخها، وبناء التاريخ الفردي ونقل المقدس إلى المدنس ونقل المدنس إلى المقدس.
وما يهمنا هنا قطع صلة المجتمعات بتاريخها وحضاراتها وعقائدها ومنظوماتها القيمية التي تتبلور من التاريخ والتراث والعقائد وتضفي بظلالها على حركة المجتمعات وسيرها الارتقائي.
وشواهد التاريخ وأضرحة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ومقاماتهم والمساجد التي بنيت على مشاهدهم المقدسة وكذلك المتاحف التاريخية والمنائر تمثل خيوط ارتباط المجتمع بتاريخه ودينه، فهو ينشد إليها ويؤدي طقوسه الروحية عندها وفي زيارتها والتبرك بها إلى الله تعالى. ومن أجل محو وإلغاء هذا الارتباط الروحي وتحويل الإنسان إلى الملذات المادية والإلحاد كان لابد من خلق مبررات لإزالة هذه الشواخص الدينية والتراثية والحضارية والتاريخية، كي ينفصل المسلم بغض النظر عن كونه سنيا أو شيعيا أو من أي اتجاه مذهبي عن تاريخه وعقيدته التي يستمد منها حركته الحالية والمستقبلية. فكان الاستهداف والتدمير والهدم بوحي وغطاء وهابي تكفيري شيطاني، أضفى على ممارسات الدواعش الشرعية الدينية، واستبطن الإلحاد وتنفيذ المشروع الصهيوني الماسوني الغربي السائر بالمجتعات نحو نزع القداسة عن الدين والمعتقد وترويج الفجور والإلحاد والرذيلة، لتكوين مجتمعات منسلخة عن أية قيمة إنسانية أو دينية.
فكل مدينة دخلها المد الإرهابي الدموي الداعشي دمر حضارتها وشخوصها التاريخية، واعتدى على حرمة الموتى، مستخدما أساليب النبش والهدم وإحراق رفاة الموتى من الصالحين والأولياء، ونبش بعض قبور الصالحين وحمل الجثث وألقاها في البحر كما حصل في ليبيا، ونبش العديد من القبور لصحابة الرسول ص والأئمة كقبر حجر بن عدي وغيره من المسلمين الرساليين في سوريا لغرض محو الأثر بالكامل، باعتبار أن رفاة الأنبياء والصالحين هي سبب إقامة الصرح الديني والمسجد وتتعلق أفئدة الناس به وتستذكر تاريخها المجيد وتقتدي بهم. وكذلك تفجير قبور أنبياء الله شيث بن آدم هبة الله ويونس وإلياس وجرجيس في الموصل، وهدموا المساجد التي فوق أضرحتهم. ودمروا المتاحف في هذه البلدة، بل وأزالو شواخص القبور في مقابر المسلمين في الموصل وغيرها من المدن التي احتلوها، كما هدموا آثار تدمر في سوريا والعديد من المساجد والأضرحة والمقابر والشواهد الدينية في ليبيا واليمن والجزائر وسائر البلدان الإسلامية التي طالتها أمواج التكفير والتوحش، ولم يقتصر الأمر على شواهد وتاريخ وتراث المسلمين، بل تعداه إلى هدم الكنائس المسيحية والشواخص والمعابد الإيزدية، واعتبروا كل منتم لهذه الديانات كافر يستحلون دمه وتسبى نساؤه وتؤخذ أمواله ومساكنه ومزارعه ومحلاتهم التجارية ويصادر كل ما لديهم، ومن يتبقى منهم يدفع الجزية، والملاحظ أن هناك شواخص وآثار يهودية قديمة لم يتعرض لها الدواعش بأي سوء، وهذا وحده يفسر إلى من تنتمي هذه الحركات التكفيرية المتوحشة المستندة إلى فتاوى ابن تيمية وابن عبد الوهاب وفكر الصهيوني هرتزل وموسى بن ميمون، طبيبب القصر الأيوبي في مصر ومستشار صلاح الدين والقصر الأيوبي لمدة سبعة وثلاثين عاما. والذي أشار على الأيوبيين القضاء على الدولة الفاطمية في مصر وتهجير ما تبقى من الشيعة والمسيحيين إلى الصعيد بعد قتل أكثرهم بمجازر يندى لها جبين الإنسانية، وأعاد توطين اليهود في القاهرة.
فلم تكن الموجة الدموية التكفيرية حدثا عابرا ظهر نتيجة تداعيات وظروف المجتمعات التي هاجمها المد الداعشي، بل القضية مخطط لها بعناية ورصدت لها أموال طائلة وسخرت لها أجهزة مخابرات عالمية كبرى، ووسائل إعلام كبرى وأقمار اصطناعية تجسسية، ودعمتها حكومات عميلة للصهاينة والغرب، ووفرت لها البيئة الحاضنة والدعم والإسناد، وخصصت لها حسابات كبرى في البنوك الرصينة العالمية، وهيأت لها جنودا بمختلف المستويات، فالصهيونية العالمية (الماسونية) حين تريد أن تعبر بالإنسانية مرحلة تخطط بشكل دائري لمشاريعها، حيث توفر أول ما توفره العلماء والمفكرين والمثقفين الملحدين الذين يعملون كموظفين في محافلها المختلفة، ثم تأتي بالحكام الساندين لمشاريعها، فلا غرابة أن نرى نبوءة غولدا مائير رئيسة وزراء الصهاينة في فلسطين المغتصبة متحققة، حين قالت: سيأتي يوم على العرب والمسلمين أن نسلط عليهم أبناءنا، ليكونوا حاكمين عليهم. إذ بلغت الأمور بمستحدثي الموجة التكفيرية أن يخططوا لداعش وأخواتها كي تحكم البلدان التي هاجمتها ثلاثين عاما قادة، ولولا عناية الله والجمهورية الإسلامية وقيادة الولي الخامنئي وفتوى آية الله السيد المرجع السيستاني بالجهاد الكفائي، وشباب ورجال الأمة المجاهدين المؤمنين في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن الذين هبوا لإطفاء هذه الموجة الدموية لأصبحت داعش وأخواتها تحكم العديد من البلدان المسلمة في غرب آسيا، لتتمدد بعد ذلك نحو الخليج ودوله الغنية بالبترول، ثم تتمدد موجتها لتشمل كل بقاع المسلمين من جكارتا حتى طنجة. وبذلك يكون دور حكام هذه البلدان التابعين للمحافل الصهيونية انتهى، وتتم إزاحتهم عن كراسي الحكم عبر كل الوسائل.
خلاصة القول أن الكل مستهدف من خلال قراءة فكر ما بعد الحداثة، مستهدف بالقتل والاستعباد ونزع الدين، أي دين كان، وشياع الإلحاد والمثلية، ومحو كل مقدس، لغرض الوصول إلى المليار الذهبي. إنها الحرب ضد الله والفساد الثاني في الأرض.