حتى الآونة الأخيرة، كان أشخاص كثيرون يعتقدون أنّ مسألة الاستعمار هي مسألة تتعلق بالماضي، ولكن اليوم توصّل بعض المفكرين إلى أن الكيان الصهيوني غير الشرعي هو آخر مشروع استعمار استيطاني، ويجب أن ينتهي. لذلك، باتت مشاعر التعاطف بين الشعوب الرازحة تحت وطأة الاستعمار مع الشعب الفلسطيني، أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. لا تزال آثار الاستعمار حاضرة في نفوس شعوب البلدان المستعمَرة، وكذلك عند الشعوب ذات البشرة الملوّنة والسكان الأصليين الذين ذاقوا لوعة الاستعمار في الدول الغربية، فيُلمس فيهم نوع من التماهي مع الشعب الفلسطيني. بعبارة أخرى، القضية تتجاوز بضع مئات من الكيلومترات المربّعة من أرض فلسطين، بل تشمل أيضًا الانتهاء من الاستعمار الفاضح في العالم إلى الأبد. تعدّ الحركات الداعمة لقضية فلسطين الانتصارَ في هذا الميدان انتصارًا للبشرية جمعاء في مواجهة تاريخ الاستعمار المؤسف، وترى أنّ المرحلة الآن هي المرحلة الأخيرة  لتجاوز أكثر من 500 عام من النظام الاستعماري الغربي.

مقارنة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني مع الاستعمار الاستيطاني الأمريكي أصبحت اليوم موضوعًا متداولًا بين المجتمعات، وصارت تعبيرًا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني من خلال هذا الإطار المفهومي. تعود صحوة الشعوب الغربية بشأن الكيان الصهيوني، وخاصة في صفوف الشباب، إلى ظهور حركة عالمية ناعمة تُسلّط الضوء على أن الكيان الصهيوني هو كيان قائم على الاستعمار الاستيطاني، ويرتكب جرائم الفصل العنصري بنحو ممنهج. لقد أسست هذه الحركة خطابًا عن أسباب الحاجة إلى إنهاء الصهيونية، وكيفية ذلك، كما شرّع انتشار هذه الحركة المجالَ أمام شعوب الدول الغربية للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني.

يحدث الاستعمار الاستيطاني عندما يهاجم المستعمرون أرضًا ما، ويحتلّونها بهدف استبدال المجتمع الموجود بمجتمعهم استبدالًا دائمًا. هناك ظاهرتان ثابتتان في الاستعمار الاستيطاني، سواء ضمن تلك التي حدثت في أمريكا وكندا وأستراليا، أو التي تحدث في فلسطين حاليًّا: الاستيلاء على الأرض، وإقصاء السكان الأصليين. وبالطبع، عندما نتحدث عن إقصاء السكان الأصليين، يمكن أن يحدث هذا من خلال الإبادة الجسدية، أو من خلال تقليل عدد السكان، وتقييد الأرض القائم على القمع المنهجي، والإبادة الثقافية للمجتمعات الخاضعة للاستعمار الاستيطاني. يشير باتريك وولف، أستاذ التاريخ الأسترالي ومؤسس مجال دراسات الاستعمار الاستيطاني، إلى هذه الظاهرة بمصطلح «منطق إقصاء السكان الأصليين»[1]. العبارات المفتاحية التي ابتدعها وولف، والتي تفيد بأن الهجوم في الاستعمار الاستيطاني هو «هيكل وليس حدثًا»، وأن الهياكل الاستعمارية للمهاجرين تحمل «منطق إقصاء» السكان الأصليين، وأن «المستوطنين يأتون ليبقوا» و«يدمّرون ليحلّوا محلّ ما كان»، تُعدّ قوانين حاسمة في هذا المجال، وقد تم الاستشهاد بها من قبل العديد من العلماء في مجالات مختلفة.

منطق إقصاء السكان الأصليين له جانبان: سلبي وإيجابي. في الجانب السلبي، يسعى منطق الإقصاء إلى استئصال السكان الأصليين جسديًّا من المجتمع الخاضع للاحتلال الاستيطاني. لذلك، يشمل كل استعمار استيطاني الإبادة، لكنه لا يقتصر عليها. في الجانب الإيجابي، بعد تدمير هياكل المجتمع السابق، يقيم الاستعمار مجتمعًا جديدًا على الأراضي المسلوبة، مما يشمل أيضًا الإبادة الثقافية للمجتمع المستهدف. «الاستعمار الاستيطاني يدمّر ليحلّ محل ما كان». يشير وولف إلى جزء من عقيدة ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، في هذا السياق: «إذا كنت أرغب في استبدال مبنى قديم بمبنى جديد، يجب أن أهدمه قبل البناء». لذلك، فإن محورية الإبادة في حالة المجتمعات القائمة على الاستعمار الاستيطاني تعد مسألة ذات أهمية كبيرة.

يجدر القول إن أحد أسباب دعم الولايات المتحدة الأمريكية للكيان الصهيوني هو الإرث الثقافي المُشترَك القائم على الاستعمار الاستيطاني، الأمر الذي صار محط تركيز المؤرّخين والخبراء في قضايا غربي آسيا أكثر من أي وقت مضى. بمعنى آخر، فإن آخر نموذج للاستعمار الاستيطاني في العالم (الكيان الصهيوني) يرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية بدعم من أول نموذج للاستعمار الاستيطاني (الولايات المتحدة الأمريكية). من بين المصادر، يمكن الإشارة إلى مقالة الدكتور محمود ممداني «الاستعمار الاستيطاني: الماضي والحاضر»، والتي يوضح فيها أن الاستعمار الاستيطاني للكيان الصهيوني لم يتأثر بنموذج الفصل العنصري في جنوب أفريقيا فقط، بل استلهم بنحو أكبر من النموذج الأمريكي في تعامله مع السكان الأصليين في أمريكا. ومثلما جرى في الولايات المتحدة من استخدام سياسة التصفية العرقية وحبس السكان الأصليين ضمن مخيّمات، فإن هذا الأمر جارٍ في الكيان الصهيوني، ليس فقط منذ بدء تأسيسه، بل إّنه مستمر[2]. هنا تنتهي أوجه الشبه بين الفلسطينيين والسكان الأصليين الأمريكيين، لأن الهنود الحمر عاشوا في عالم كان الاستعمار فيه في ذروته. لكننا «الآن قد وصلنا إلى نهاية فترة خمسة قرون من سطوة الغرب، تلك الفترة التي بدأت منذ عام 1492». يعتقد ممداني أن «العزلة السياسية لفلسطين في الشرق الأوسط تقترب تدريجيًّا من أن تنطوي في التاريخ… والآن يمكن تصوّر فلسطين الحرة». تشير تصريحات وزير التراث الثقافي في الكيان الصهيوني، عميحاي إلياهو، بشأن إمكانية استخدام “إسرائيل” للقنبلة النووية في غزة، إلى اكتمال هذا الاقتداء بالدولة الوحيدة التي تحمل عار استخدام القنبلة النووية في تاريخها.

إعادة قراءة تاريخ تشكيل أمريكا من منظور الاستعمار الاستيطاني تساعدنا في تحليل بعض تفاصيل هذا التاريخ بنحو أفضل. على سبيل المثال، كانت المجتمع الاستعماري في أمريكا ينظر إلى العبيد من ذوي البشرة السمراء كقوّة عمل ورأس مال اقتصادي، في حين كان ينظر إلى السكان الأصليين كموارد أرضية. لذلك، كان التعامل مع ذوي البشرة السمراء يتركز على السيطرة الفردية، في حين أن التعامل مع الهنود الحمر كان قائمًا على السيطرة القبلية. من هذا المنطلق، تشكّلت هياكل وأدوات القمع الممنهج، وكلمه منها بشكل مختلف. يقول ممداني: «من منظور قانون أمريكا، كان الأمريكيون من أصل أفريقي مثل الكلاب التي يمكن ترويضها، في حين كان الهنود الحمر أشبه بالقطط التي تبقى متوحشة إلى الأبد». وكانت طرق مكافحة كل منهما مختلفة أيضًا. إذا كان ذوو البشرة السمراء يسعون للعودة إلى أفريقيا، أو النضال من أجل الحصول على حقوق المواطنة المتساوية في أمريكا، فإن مثل هذه الإمكانية لم تكن متاحة للسكان الأصليين، إذْ كان السعي للحصول على المواطنة يعني قبول الهزيمة التامة أو الاستعمار التام. لذلك، كانت هذه الجماعات تسعى بنحوٍ أساسي للحصول على شكل من أشكال الاستقلال ضمن إطار السيادة القبلية في أراضٍ محدودة.

من هذه الزاوية، تعدّ أمريكا أول حكومة استعمارية استيطانية، حكومة أُنتجت عبر قمع السكان الأصليين في أمريكا، والقضاء عليهم. ويعتقد ممداني أن «ما يميز الولايات المتحدة هو أنها لم تطرح بعد قضية إزالة الاستعمار على الصعيد العام». من اللافت أنه عندما استقلّت جنوب أفريقيا – التي كانت تحت سيطرة البيض – عن إنجلترا في عام 1910، أرسلت وفدًا إلى أمريكا الشمالية، وخاصة إلى الولايات المتحدة وكندا، لدراسة كيفية إنشاء الأراضي القبَلية. وكان المنطق خلف هذه الخطوة هو أن هذه الدول قد أنشأت، قبل نصف قرن، مثل هذه الهياكل لممارسة القمع الممنهج بحق السكان الأصليين. عندما بدأت الإبادة الجماعية بحق ذوي البشرة السمراء في جنوب أفريقيا عام 1913، أطلق على مخيّماتهم اسم «Reserve» (احتياطي) وهو لقب مقتبس من مصطلح «Reservation» المستخدم لمخيّمات السكان الأصليين في أمريكا[3]. في الواقع، أمريكا ليست الرائدة في تاريخ الاستعمار الاستيطاني فحسب، بل هي أيضًا المُصدِّرة لتقنياته. بحسب ممداني، «إن كل المؤسسات التابعة للاستعمار الاستيطاني بوصفها تقنيات للتحكم في السكان الأصليين، قد جرى إنتاجها في أمريكا الشمالية. كانت أولى هذه الحالات هي تركيز السكان الأصليين في الأراضي القبَلية. لم يكن النموذج الأولي لمخيّم العمل القسري – الذي استلهمه النازيون – مخيّمًا أنشأه البريطانيون للحد من «البوير» خلال حرب «الأنغلو بوير». بل كانت المنطقة المستلهمة هي المنطقة التي تم إنشاؤها تحت إشراف الرئيسين لينكولن وجرانت في منتصف القرن التاسع عشر للحد من قبائل الأمريكيين الأصليين».

المؤسسة الثانية التي استلهمتها حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا من الولايات المتحدة هي تقنية معروفة باسم نظام «Pass». تم إنشاء نظام «Pass» بدايةً في مزارع العبيد في جنوب الولايات المتحدة؛ بهدف التحكم في حركة تنقّلهم وعبورهم. كان الأمريكيون يستخدمون هذا النظام لمراقبة العبيد الذين كانوا بحاجة إلى التنقل لزيارة عائلاتهم المتناثرة في مزارع أخرى. كان نظام «Pass» ضروريًّا للتحكم في ذوي البشرة السمراء، سواء كانوا عبيدًا أم لا، مما عرّضهم لمختلف أنواع المضايقات التي شملت الاستجواب، والتفتيش، والجلد، والضرب، والإهانة. لذا، نظام نقاط التفتيش الذي تم استخدامه لاحقًا في جنوب إفريقيا، والآن في الكيان الصهيوني، كان قد تم استخدامه منذ سنوات من قبل حكومات الولايات المتحدة ضد العبيد.

وُصف السكان الأصليون الأمريكيون في إعلان الاستقلال بـ«الوحشيّون»، ولم يُعترف بهم أبدًا في الدستور الأمريكي كأقلية تمتلك حقوقًا سياسية أساسية. على الرغم من أنه في عام 1924، تم الاعتراف بالسكان الأصليين الأمريكيين كمواطنين، إلّا أنهم، طالما عاشوا في مناطق خاصة، وتحت حكم ذاتي، والتزموا بنمط حياتهم الخاص، من دون أن يتمتعوا بالحقوق المدنية المضمونة في الدستور الأمريكي. يقول ممداني: «لديهم حقوق سياسية، ولكن ليس لديهم حقوق مدنية». يستطيعون التصويت وتولّي المناصب السياسية، لكنهم كجماعة أصلية يخضعون لسلطة «الكونغرس»، دون أن يكون لديهم ممثّل في «الكونغرس»! لا يُطبّق قانون الحقوق المدنية لعام 1964 على الأمريكيين الأصليين المقيمين في مناطق خاصة، كما أن قانون الحقوق المدنية للهنود الحمر (وهو المصطلح الذي استخدمه كريستوفر كولومبوس للسكان الأصليين في أمريكا)[4] غير مكفول في الدستور.

توضح الاستفادة من الإطار المفهومي للاستعمار الاستيطاني في سياق «ثورة 1776 الأمريكية»، التي أدّت إلى استقلال السكان البيض في أمريكا عن إنجلترا، أن هذه “الثورة” لم تكن ثورة مناهضة للاستعمار، بل كانت حركة تهدف إلى توسيع الاستعمار الاستيطاني الأمريكي. يُظهر استقلال أمريكا من هذه الزاوية تشابهًا مع استقلال البيض في جنوب إفريقيا عام 1910، واستقلال الصهاينة عام 1948. في الواقع، كانت الحالات الثلاث تمثّل تمرّدًا ضد السكان الأصليين المقيمين في تلك المناطق، وتأسيسًا لهياكل استعمار استيطاني فيها.

من المثير للاهتمام أنّ ممداني، بعد زيارته ودراسته لمناطق مختلفة من الأراضي المحتلة، يشير إلى أنّ «نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ليس عدسة مناسبة لفهم “إسرائيل”». بل إن ما يتم تقليده في الكيان الصهيوني هو الاستعمار الاستيطاني الأمريكي؛ «مثل أمريكا الشمالية، لا يهتم المستوطنون في “إسرائيل” بالفلسطينيين كمصدر للعمل. إنهم يريدون أرضهم. لقد استلهم الصهاينة في “إسرائيل” منذ زمن طويل من كيفية تطهير أراضي الهنود الحمر على يد الأمريكيين. في 22 ديسمبر 2013، أفادت صحيفة “جروزالم بوست” عن مناقشة بين أحد أعضاء “الكنيست” ورئيس لجنة بشأن مشروع قانون ينظّم إقامة البدو في النقب: “هل تريدون نقل جميع السكان؟” فأجاب: “نعم، كما فعل الأمريكيون مع الهنود الحمر”». بل حتى «حل الدولتين» الذي تنظر إليه أمريكا و”إسرائيل” يشبه النهج الذي اتّبعته أمريكا مع الهنود الحمر. إن نموذج الحكومات الذاتية المحدودة في أراضٍ محدودة، الذي فُرض على السكان الأصليين الأمريكيين من خلال التطهير العرقي والنقل القسري، هو نفسه منح حق السيادة على مناطق محدودة للفلسطينيين.

وفق روسارا سانشز وبيترایس بيتا في مقالة بعنوان «إعادة التفكير في الاستعمار الاستيطاني: 1848/1948 نقطتا تحوّل»[5]: «كان عام 1948 عامًا كارثيًّا بالنسبة إلى الفلسطينيين. بالنسبة إلى ذوي الأصول المكسيكية في الجنوب الغربي من الولايات المتحدة، حدثت النكبة في عام 1848، عندما ابتلعت أمريكا الشمال الغربي  من المكسيك… نحن، أناس من أصل مكسيكي في الولايات المتحدة، نملك أوجه تشابه كثيرة مع الفلسطينيين في “إسرائيل”، وكذلك مع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. على الرغم من الاختلافات المهمة، فإن القاسم المشترك بيننا هو سلب الملكية من الأراضي، بالإضافة إلى تجربة العيش كأناس من الدرجة الثانية تحت هيمنة سلطة حكومة متغطرسة ومفروضة عبر ظروف تاريخية».

وبالطبع، يجب القول إن القاسم المشترك بين الفلسطينيين والسكان الأصليين الأمريكيين يتوقف هنا، لأن الاستعمار الاستيطاني في أمريكا حدث في وقت ذروة الاستعمار في العالم، بينما يحدث الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في زمن تراجُع القوى الاستعمارية وإعادة التفكير العالمي في الهياكل الاستعمارية الهدّامة. بهذا الإطار النظري، كل ضربة نوجهها إلى هذا الكيان الاستعماري من قِبَل أي منا هي خدمة لكل الإنسانية، لأننا بذلك نقلب الصفحة الأخيرة من تاريخ الاستعمار الاستيطاني، الأمر الذي من شأنه أن يبشّر بعالم خالٍ من الاستعمار.