من كل الجهات يأتون، وكل جهاتهم الجنوب. جنوب القلب وجنوب الروح، وجنوب الوطن المجروح. جنوباً يتقدّمون، جنوباً يمضون زرافات ووحداناً، وحدهم لا يلتفتون إلى خَلْفٍ إلا لتلاوة وصية أو تسليم راية وابتسامة.
بين صبح ومساء نحصي أعداد الشهداء، لكن الشهداء ليسوا أعداداً ولا أرقاماً في حسابات الربح والخسارة. إنهم الروح، روح شعب يقاتل كي يحيا. يواجهون الموت بلا خوف ولا وجل لأنه موت لأجل الحياة، حياة الذين ظلوا هنا فلا يُقهَرون ولا يُذلَّون، والذين ارتقوا إلى أعلى وهم عند ربهم أحياء.
يذهبون إلى حتفهم بلا جميل أو منّة يُحمِّلونها لأحد، لا يريدون من الدنيا سوى أن تحيا بلادهم حرّة وأهلهم أعزاء، أعاروا جماجمهم لله والبلاد. فلا نعرفهم إلا حين موتهم، وحينها يحيون فينا إلى الأبد.
هم ليسوا أعداداً ولا أرقاماً نحصيها، أو نقرأها في عواجل الأخبار. إنهم الراسخون في الأرض كالجبال، الواقفون على شفير الشوق لِحُسن الخاتمة واللقاء. هم عشّاق الأرض وأبناء التراب، كتبوا بدمائهم نشيد الوطن، مَلَّحُوا الأرض بأجسادهم، فارقوا الدنيا وعلى وجوههم ابتسامة الرضا ولهفة العناق في جنة وِسْع الأراضين والسموات.
إنهم الثابتون على العهد والوعد، لا شكّ يَشُوب يقينهم، لا خوف يخالج أفئدتهم، لا رعشة تراود سباباتهم الضاغطة على الزناد. يعرفون وجهتهم تماماً، ولا نعرف وجوههم إلا متى صاروا صوراً على الجدران.
من كل الجهات يأتون، وكل جهاتهم الجنوب. جنوب القلب وجنوب الروح، وجنوب الوطن المجروح. جنوباً يتقدّمون، جنوباً يمضون زرافات ووحداناً، وحدهم لا يلتفتون إلى خَلْفٍ إلا لتلاوة وصية أو تسليم راية وابتسامة.
حرّاس الأرض هم، وحرّاس عناصرها الأربعة، بل هم الهواء والماء والضوء والتراب، لولاهم لكانت الروح مقفرة والأرض يباب. أليس من أضرحة الأحبَّة ينبتُ عشب الحياة؟
حرّاس الأرض والوعي والضمير، حرّاس الذاكرة والجغرافيا والتاريخ، حقهم أن تُحرَس دماؤهم وتضحياتهم، وأن ترسخ في الذاكرة كوشم لا يُمحى أبداً. أن تُطلق أسماؤهم على الشوارع والساحات والميادين، أن تُقام لذكراهم المزارات والحدائق وأن يفوح عطر أرواحهم في كل حدب وصوب.
يكتبون بالدم رواية الحقّ والحقيقة، وحقّهم علينا أن نروي بالحبر حكاياتهم لأنهم ليسوا مجرد أعداد في نشرة أخبار. إنهم أحبّة، عشّاق ورفاق، آباء وأمهات وإخوة وأخوات، أبناء وبنات، فلذات أكباد، قرّة أعين، مهج أنفس. لكلٍّ منهم رواية أين منها روايات الأقدمين، لكلٍّ منهم حكاية، لكلٍّ سيرة جديرة بأن تُقتفى وتُحتفى، وتنقل إلى الأجيال لا بالتواتر والمشافهة فحسب، بل بكل أشكال القول والتعبير أدباً وفناً كي تحفظ من النسيان في بلاد، للأسف، مصابة بأمراض فقدان الذاكرة والجحود والنكران.
***
كأنكَ وُلدتَ من خميرة التكوين(*)
أو كأنكَ بقيةُ الله في الكائنات،
على جبينكَ ياقوتُ العرش
في قلبكَ سقسقةُ المياه.
يا ابنَ خيرِ أرضٍ
ما سعتْ بكَ قدمٌ الا لهتافٍ سماويٍّ تلبي النداء.
أشمُّ عطرَ أحلامكَ في الأنحاء،
هنا ارتفعتَ كسربِ موسيقى
حفرتَ وشماً على جبينِ الحياة
فمن مثلكَ أيها الطائرُ الماطرُ؟
تغرّدُ فتروي اليباب
تفردُ جناحيكَ كي نعلو.
فيكَ رائحةُ صبرٍ وصبّار
فيكَ صهيلُ خيل ٍ
وريحُ صيفٍ تطلُ من خلفِ التلال
فيكَ شتاءٌ حنونٌ وزهرُ ليمونٍ وبساتينُ نخوةٍ
فيكَ قمرٌ مؤنسٌ كرغيف المساكين
يسامرُ الرابضين خلفَ صلواتهم
وما بدّلوا في الأنواء.
في وجهكَ كتبٌ مقدسة ودعاءٌ مُستَجاب
اسمُكَ فاتحةُ الأسماء،
فيكَ عبقُ الأخوّة
ووشوشةُ الوردِ في مسامعِ الصباح.
فيكَ رحيقُ المعنى،
وخلاصةُ المقال.
فكيف تسعفنا الكواكبُ على اللحاقِ بأثرِ قدميك
وكيف نعتقلُ الوقتَ في شمسِ عينيك؟
أيها العالي كشرفةِ سماء،
معتذراً يمرُّ بكَ السحابُ
شوقاً يصعدُ المطرُ إلى روابي عينيك.
لم أعرفك إلا قمراً في ليالي العشّاق،
نسمةً خضراء في قيظِ البُعاد،
وشوكةً داميةً في عين الاحتلال.
تعرفكُ سفوحُِ الأشواق
تعرفكَ الجمرةُ المتقدةُ في الأحداق.
يا ابنَ الوردةِ والوريد
صنو الضحكةِ المتفتحةِ في الأرجاء،
أحبُّ فيكَ كلَّ ما فيك
أحبُّ فيكَ الصباحاتِ المتدفقةَ من ثغرِ صمتكَ،
والنهاراتِ الوسيمةَ في مقلتيكَ.
هل أخذتَ نصيبكَ من البنفسج،
وزادكَ من السنين؟
هل اكتفيتَ من برقِ وجنتيكَ؟
ذهبتَ لمغازلةِ الندى في جَفنِ الردى.
أسمعُ صوتكَ في نداءاتِ القرى
أشمُّكَ في عبقِ الفصولِ
كأنكَ ما تبقّى من حداءِ الأمهاتِ في ليالي السهادِ
ومن حنطةِ المرسَلين في سنابل الفقراء.
(*) مقتطفات من قصيدة الشاعر “النطفة الناطقة”