صرح رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات في لبنان، “الدكتور فرح موسى” أن “أطروحة الإمام الخميني(رض) لم تكن تأثّرًا بالتجارب الغربية، بل كانت استعادةً لمشروع الإسلام الأصيل، حيث تلاقت عاشوراء مع صناديق الاقتراع، واجتمعت الولاية مع وعي الجماهير، ليُبنى نموذج لا شرقي ولا غربي بل قرآني محض.”
لقد حاول الكثيرون إعطاء الثورة طابع الاستفتاء الثوري بعيدًا عن الرؤية الإسلامية، صرفًا للثورة تارة باتجاه الغرب، وطورًا باتجاه الشرق، ولكن الإمام قدس سره حرص دائمًا على أن تكون الثورة انعكاسًا للمحتوى الثقافي والديني للأمة. فالاستفتاء الشعبي قبل انتصار الثورة وبعده، لم يخرج عن كونه تفاعلًا للأمة مع دينها، وكان من نتائج الوعي الثوري أن تجرى الانتخابات وفق هذا الوعي.
فالسؤال عن ما إذا كان الإمام قد عمد إلى التوفيق بين الإسلام والغرب في تحولات الثورة، يمكن أن يجاب عليه من واقع التحول الجذري في منطلقات الثورة، التي جعل منها الإسلام نموذجًا جديدًا وفريدًا في التعبير الثوري للأمة، وفي بناء الدولة. فالإمام رضوان الله عليه في كل اقتراع شعبي كان يوجه المسؤولين الثوريين الملتزمين إلى هجرة المناهج التوفيقية، خلافًا لمساعي من أراد للثورة أن تكون منهجًا توفيقيًا، وللدولة أن تكون تعبيرًا سلطويًا، غربيًا، أو شرقيًا، فهو، أي الإمام، كان يركز على إقامة الحكومة الإسلامية بما هي تعبير قرآني، ومنهج إسلامي في الحكم، رافضًا كل الدعوات الانتخابية الهادفة إلى التوفيق بين الإسلام والغرب، وذلك من منطلق أن الثورة الإسلامية فيما أسست له من تحولات وتعبيرات دينية وسياسية كانت ثورةً ضد المنهج الغربي الاستعماري في الحكم، فلم تكن تستحضر في تحولاتها الثورية إلا الإسلام.
وحينما حاول الكثيرون التحدث في كتاباتهم عن الجمهورية، كان الإمام يوضح مطالب هؤلاء للشعب بأنهم يريدون جمهورية يغيب عنها الإسلام، مبيّنًا حقيقة مسعى هؤلاء أنهم يريدون جمهورية غربية لا جمهورية إسلامية! فإيران لم يغب عنها الإسلام يومًا، حتى أنها في زمن الشاه والاستعمار كانت جمهورية إسلامية، فلا ينبغي بنظر الإمام أن يعاد النموذج الغربي إلى البلاد تحت عنوان التوفيق والتلفيق بين الإسلام والغرب!
ولهذا نجد الإمام يخاطب الشعب الثوري بالتوجه إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أطروحة الإسلام في الحكم. وكان كلما التبس الموقف الانتخابي في اختيار أي مسؤول، يخرج الشعب في استفتائه ليعبر عن رؤيته الثورية وفق الرؤية القرآنية. فالمنهج التوفيقي، كما كان يراه الإمام، هو في الجوهر منهج تخريبي في إطار العمل الثوري، وخصوصًا إذا ما جاء متلبسًا بعناوين الحرية والديمقراطية!
وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة ما تجوهرت به هذه الثورة في القرن العشرين، وهذا ما لم يتنبه له الكثيرون في عالمنا المعاصر، ونعني بهذا التجوهر تحقيق الانقلاب الثوري على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلًا منذ إقامة الدولة الإسلامية في زمن الرسول الأعظم(ص)، حيث نرى الإمام في أطروحته الإسلامية للحكم، وفي ظل ما يشهده عالمنا المعاصر من تحولات دينية وسياسية، نراه يتجاوز نسق وأطر كل التحققات الثورية، ويقيم نظامًا إسلاميًا وسطيًا! فهو لم يختر أنموذجه من واقع ما يعايشه العالم من تجارب، وأنظمة حكم، وإنما أعاد أطروحة الإسلام المحمدي الأصيل إلى واقع الحياة، وإدارة شؤون العباد والبلاد، وهذا ما جعله إمامًا متفردًا في أنموذجه.
وقد يقال بحق: إن أنموذج الإمام هذا شكّل للأمة الإسلامية مبعثًا رساليًا لم تألفه الأمة منذ قرون، وهذا ما فنّد الإمام فيه الكلام جيدًا، أن الأمة في إيران في وعيها الثوري أعادت عطف آخر الزمان على أوله، وأحدثت خرقًا هائلًا في جدر الجاهلية الغربية والاستعمارية! وأعطت أملًا بأن الإسلام فيما ينطوي عليه من منهج ورؤية، قادر على أن يعيد تشكيل منهجية الحياة في الدولة والثورة بعيدًا عن الشرق والغرب. فالإسلام، كما عبر عنه الإمام، شكل مبعثًا جديدًا للأمة، ما يجعلنا نؤمن بحق أن إيران الإسلامية اليوم بكل ما اختارته من أطر ونظم في إدارة الدولة، وفي كل تعبيراتها الثورية، قد أنتجت نظامًا ثالثًا من خارج كل ما هو مألوف ومعهود في العالم من أنظمة!
فإيران مبعث رسالي جديد، ويكفينا لوعي ذلك إدراك حقيقة تحولاتها الثورية في زمن كاد الناس يصدقون فيه أنه لا أمل لهم من خارج منظومات جاهليات الغرب والشرق! فإذا بالإمام قدس سره يعيد الأمل، ويحدث هذا التحول في الثورة والدولة معًا، مخاطبًا الأمة والشعب الإيراني: “علينا أن نحافظ على رمز انتصارنا المتمثل بوحدة الكلمة والاستناد إلى القرآن المجيد، وننطلق معًا لإقامة الجمهورية الإسلامية… وعلى جميع فئات الشعب الاقتراع لصالح الجمهورية الإسلامية، لا أكثر ولا أقل.
ولعل أكثر ما كان يسترعي نظر الإمام في قراءته لواقع الأمة الإيرانية، هو تجارب هذه الأمة في صراعها مع الغرب المستعمر، فهو قرأ ما أقدم عليه الشاه القاجاري حين أعطى امتياز التنباك للإنكليز عام 1890م، والذي كان سببًا في فتوى المرجع من حسن الشيرازي في تحريم التنباك، كما أن الإمام استوعب حقيقة ما كان يسمى بالمشروطة والمستبدة في عهد الملك القاجاري مظفر الدين عام 1905م، والتي قادها علماء إيران لرفع الاستبداد، وجعل الحكم شورى في البلاد! كل هذا استحضره الإمام، وجعل منه دروسًا للأمة في مواجهة الاستعمار وكل حالات التغريب في المجتمع الإسلامي.
إن ما تميز به الإمام في مواجهة حالات التغريب، هو قدرته الفائقة في استثمار الوعي الديني في زمن كان التغريب موغلًا في التأثير على كثير من القادة والمسؤولين عن إدارة البلاد! كيف لا وقد هال الإمام قدس سره حقيقة ما اختزنته التجربة الإيرانية من تجارب! فهو استطاع من خلال إحاطته الشاملة بالواقع الإسلامي استيعاب أسباب الفشل في حركة الأمة اتجاه السيادة والحرية والاستقلال، فاختار أن تكون ثورته انقلابًا شاملًا على كل القيم الغربية، موجهًا الأمة بالرؤية القرآنية للتحرر من كل القيم والأفكار الغربية! ولهذا نجد الإمام لا يقبل بالحلول الوسط، ولا بالمفردات الغربية المضللة للرأي العام، ويوضح مطالب الغرب في ما كان يسعى إليه من تفريق بين الدين والسياسة!
وهذا كما يبدو لنا، أن الإمام أعطاه حيّزًا مهمًا من اهتماماته، مركزًا على دور علماء الدين في إصلاح ما أفسده الغرب، دون أن يغرب عن بال الإمام تأثيرات الغرب على الروحانيين لتسويغ أطروحاتهم المضللة، ولهذا نجد الإمام في مواجهة التغريب يركّز على ضرورة الإصلاح في الوسط الديني قبل غيره! وإذا تأملنا في كتاب الحكومة الإسلامية للإمام، وفي وصيته السياسية الخالدة، نجد دعوةً صريحة إلى إصلاح الهيئات الدينية، وتطهير المراكز العلمية من عملاء الغرب والشرق، وطرد فقهاء القصور الذين دخلوا في الدنيا، وأحدثوا في الدين ما ليس منه!!! إن ما أرساه الغرب من قيم مادية في المجتمع الإيراني طيلة عقود من الزمن، لم يكن ممكنًا مواجهته إلا بثوابت الدين والقرآن لإحداث التحول الجذري في المجتمع.
والحق يقال: إن الإمام قدس سره لم يكن يُخفي امتعاضه من النخبة المثقفة التي ساهمت، أو سكتت عن التعرض لقيم الإسلام ومبادئه، وكانت سببًا في تضليل الأمة وتغريبها عن دينها! فالغرب لم يكن يعنيه من تغريب المجتمع سوى حماية مصالحه، وإحداث الفرقة بين المسلمين، وتغذية روح المذهبية بين الناس، بهدف تسويغ مشروعه التغريبي تحت عناوين وأفكار شتى وفد بها إلى حياة المسلمين، ليجعل منها بديلًا للقرآن والقيم الإسلامية، وهذا ما أسف له الإمام في ندائه الأخير، بقوله: “والمؤسف أن القرآن الكريم، الذي يجب أن يكون وسيلة لجمع المسلمين والبشرية، وكتاب حياة، أصبح وسيلةً للتفرقة بين المسلمين، أو أنه هجر كليًا.
إن ما فعله الإمام الخميني قبل الثورة وبعدها، هو أنه استطاع إعطاء الأمة الدفع اللازم للتعبير عن رؤيتها الإسلامية ودورها المستقل. فهناك الكثير من الأسئلة التي يمكن طرحها حول أهم العوامل والتحديات، وقد سلّط الإمام الضوء على كثير منها، ولعل أهم هذه العوامل هو حياة الأمة بالقرآن وعاشوراء، ولهذا كان الإمام يردد كلامه، أن كل ما عندنا من عاشوراء، فهذا عامل أساسي كانت تعيشه إيران قبل الثورة، وجاء الإمام ليزيد هذا العامل تحققًا ووجودًا. إنه عامل كان ولا يزال أساسيًا، وما دامت الثورة ملتزمة بالإسلام وعاشوراء، وتملك هذا الدافع القرآني، فلن تضعف عن القيام بمسؤولية الدفاع والنهوض، ومواجهة التحديات الغربية، ولهذا يقول الإمام: “إذا أردتم أن يستقر الإسلام وحكومة الإسلام، وأن تقطعوا أيادي المستعمرين والمستغلين، الداخليين والخارجيين، عن بلدكم، فلا تضيّعوا هذا الدافع الإلهي الذي أوصى به القرآن الكريم، ويأتي في مقابل هذا الدافع، الذي هو النصر والبقاء، نسيان الهدف والتفرقة والاختلاف…”.