درس الأخلاق الأسبوعي/ آية الله جوادي آملي

التاريخ: 12 جمادى الآخرة 1447.

أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم بسم الله الرّحمٰن الرّحيم.

إحدى الكلمات النّورانيّة لأمير المؤمنين سلام الله عليه في القسم الأخير من نهج البلاغة قوله: «لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِکَفِّهِ عَضَّهٌ»، و«الرَّحِيلُ وَشِيكٌ»، و«مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ».

إنّ البيانات المشرقة لمولى الموحّدين عليه السّلام تردُ تارةً في هيئة خُطَب مستقلّة، وأخرى في رسائل قائمة بذاتها، وتارةً تأتي كلماتٍ وجُمَلاً صدَرَت عنه في مقاطع خاصّة، ترتبط تارةً بتفسير القرآن، وتارةً بشرح كلمات النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله. وهذه الكلمات المتفرّقة والقصار إنّما تُلاحظ بلحاظ تلك المقامات؛ فربّ كلمةٍ تُنتزع من خطبة فتُذكر مستقلّة، وربّ أخرى تُروى ابتداءً على أنّها من الحكم والوصايا.

وهنا، فإنّ الله جلّ شأنه يُعرّفنا آياته بلسان التّكوين كما يعرّفنا إيّاها بلسان التّشريع؛ فيُقيم الحجّة تارةً عبر الكلمات والآيات والبيانات، وتارةً يُري الحقَّ نفسَه بلا واسطةٍ من لفظٍ أو بيان من طريقَين على نحو مانعة الخلوّ، وقد يجتمعان. فقد قال تعالى: ﴿سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾؛ أي إنّا نُظهر لهم آياتنا في نظام التّكوين كلّه، وفي باطن نفوسهم، ونُطلعهم عليها أحياناً بواسطة الآيات اللّفظيّة والكلمات البيانيّة.

فالآيات الإلٰهيّة يُبديها سبحانه لعباده من طريقَين لا يخلو أحدهما من الآخر، وقد يجتمعان: إمّا في عالم الوجود والآفاق، وإمّا في أعماق الأنفس والآيات الباطنة.

قد يعمد القرآن الكريم تارةً إلى إقامة البرهان على حقيقة القيامة، فيبيّن أنّ الأمر ليس كما يتوهّم بعض النّاس من أنّ الإنسان يُترك مهمَلاً يفعل ما يشاء بلا حساب؛ بل ثمّة حساب، وثمّة كتاب محفوظ.

وتارةً أخرى يشير إلى أنّ من دلائل القيامة وأنموذجها النّومُ واليقظة؛ فإنّ ما يعتري الإنسان كلّ ليلةٍ من نومٍ ليس سوى موتٍ مؤقّت، إذ لا حقيقة للنّوم سوى نوعٍ من مفارقة الرّوح للجسد. فبمقدار ما تنفصل الرّوح عن البدن يتحقّق عنوان الموت. وقد ورد: إنّكم تموتون في كلّ ليلة، غير أنّ الموت الدّائم أشدّ وأكمل. قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾؛ فالذين يموتون تُفارق أرواحُهم أبدانَهم مفارقةً تامّة، والذين لا يموتون تُنزعُ منهم الرّوحُ نزعاً ناقصاً عند النّوم. فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى﴾ يدلّ على أنّ الله سبحانه هو المتوفّي حقيقةً، يتوفّى الأنفسَ حين موتها بالمفارقة الكاملة، وأمّا الذين لم يأتِ أجلهم، فإنّه يتوفّاهم عند المنام توفّياً ناقصاً.

فالذين لم يموتوا -بحسب الاصطلاح العرفيّ- فإنّ الله تعالى يقبض أرواحهم عند نومهم، فالموت هو هذا النّوم بعينه، غاية الأمر أنّ هؤلاء لم يضمحلّوا، وإنّما استغرقوا في النّوم. وعليه، فنحن نُدرك حقيقة الموت إدراكاً شهوديّاً في كلّ ليلة، وإنْ كانت البراهين العقليّة البرهانيّة محفوظة في محلّها.

وكما أنّ للتّوحيد طريقَين: طريق الشّهود وطريق الحصول، أي طريق الوجدان وطريق البرهان؛ فكذلك أمر المعاد، فإنّ قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ يكشف أنّ الموت ليس أمراً غيبيّاً محضاً، بل نحن نذوقه كلّ ليلة، غير أنّه موتٌ مؤقّت تنفصل فيه الرّوح عن الجسد انفصالاً محدوداً، أمّا الموت الدّائم فمفارقةٌ لا عودة معها. فإذا عادَت الرّوحُ كان ذلك هو اليقظة. فالنّوم هو انفصال الرّوح عن البدن بمقدارٍ معيّن، واليقظة رجوعها إليه.

والإنسان في حال النّوم ليست روحُه قائمةً في بدنه على نحو الحضور التّامّ. إنّ الذّات الإلٰهيّة المقدّسة قد بيّنت لنا أمرَ الحياة والممات والدّنيا والآخرة من زوايا متعدّدة، ثمّ أوضحت أنّ ما يمرّ به الإنسان في هذه النّشأة الدّنيويّة يجد نظيره يوم القيامة، ولكنْ بشكلٍ أشدّ وأقوى. فالإنسان في الدّنيا إذا ندم وتألّم على فعلٍ صدر منه ترى أثر ذلك على جوارحه، حتى إنّه –في حال النّدم الشّديد– يعضّ إصبعه. وهذه حالة مألوفة عند العرب والعجم معاً، حتّى صار التّعبير المشهور في الأدبَين الفارسيّ والعربيّ: «سَبّابةُ رجلٍ مُتندّم»، أي أنا كسبّابة الرّجل النّادم، كلّما عرض أمرٌ عضّني. فالنّادم إذا اشتدّ ندمه أدخل إصبعه في فمه وأخذ يعضّها، وكثيراً ما عبّر الأدباء والشّعراء عن حال النّدم بهذه الصّورة المأنوسة.

وهذا الأصل له جذورٌ قرآنيّة واضحة، فالله تعالى يقول: ﴿يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾؛ فالظّالم يومئذٍ لا يكتفي بعضّ إصبعٍ واحد، بل يعضّ يديه كلتيهما من شدّة التّحسّر، ويتمنّى لو أنّه اتّبع الرّسول وآله الأطهار.

وقد صار هذا البيان القرآنيّ أصلاً في كلّ موارد النّدم، وانعكس في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة في حكمته رقم (186): «لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌ»؛ فالذي يبدأ بالظّلم -لا مَن كان في مقام الرّدّ على ظلمٍ سابق- هو الذي يعضّ كفّه غداً ندماً على ما اقترفت يداه. فالآية الكريمة: ﴿يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ تنطبق أوضح ما يكون على الظّالمين: مَن ظلمَ المبدأ، أو ظلمَ أهل البيت، أو ظلمَ المجتمع، أو ظلمَ النّفوس؛ فهؤلاء جميعاً تشتدّ حسرتهم يوم القيامة حتّى يأخذوا في عضّ أيديهم من شدّة النّدامة.

وقد يكون النّدم في بعض الأحيان لا لون فيه للكآبة، بل هو أقرب إلى الحسرة الممزوجة بالتّعجّب، لا إلى النّدم الغمّاز. ففي شأن الشّهداء ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى خطبه أنّه إذا بلغَنا خبر وصولهم إلى لقاء الله عزّ وجلّ، نأخذ نحن -من شدّة التّعجّب والدّهشة- بعضّ أصابعنا، وهذا ليس من عضّ النّدامة، بل من شدّة الانبهار والخسارة على فقدان أولئك الأعزاء. وهذا غير مورد الخزي والفضيحة وما أشبه ذلك. وفي خطبة أخرى يشير إلى أنّه إنْ رحل من أصحابنا العظماء مَن شَرِبَ كأس الشّهادة، فإنّنا في تشييعهم نضع الأصابع في الفم تعجّباً، لا تأسّفاً على خطأٍ ارتكبناه، بل تأسّفاً على فقد رجلٍ كبيرٍ وعزيز.

والمقصود أنّ هذا البيان النّورانيّ من الإمام عليه السّلام مستفاد من تلك الآية الكريمة التي يخبرنا فيها الحقّ تعالى أنّ طائفة من أهل القيامة يعضّون أيديهم حسرة وندامة.

ثمّ قال عليه السّلام: «الرَّحِيلُ وَشِيكٌ»؛ أي إنّ الرّحلة عن هذه الدّنيا ليست على نمطٍ واحد، فلا يتوهّم أحدٌ أنّ النّاس يرحلون كما جاؤوا: مَن تقدّم في المجيء تقدّم في الذّهاب، ومَن تأخّر في المجيء تأخّر في الرّحيل. ليس الأمر كذلك؛ بل قد يرحل في ريعان شبابه من لم يبلغ الكهولة، فـ«وَشِيكٌ» تعني السّريع العاجل.

والرّحيل انتقالٌ من نشأةٍ إلى نشأة، لا فناءٌ واضمحلال. فالإنسان في الدّنيا كالنّائم، ثمّ يستيقظ في البرزخ شيئاً ما، ثمّ تكون له في القيامة يقظةٌ تامّة خالصة. ولهذا نجد أنّ لفظ «اليوم» و«يومئذٍ» في أغلب موارد القرآن -إلا ما خرج بدليلٍ خاصّ- إنّما سيق للدّلالة على يوم القيامة، فهو يومٌ على الحقيقة، غير اليوم الدّنيويّ المألوف.

وقد بيّن عليه السّلام أنّ هذه رحلة ينتقل فيها الإنسان من موضعٍ إلى موضع، لا فناء فيها ولا انعدام، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان في عداد الأحياء -بحسب الظّاهر الدّنيويّ- أو في عداد الأموات؛ إذ السّرّ أنّه يشاهد نفسه في محضر الذّات الإلٰهيّة المقدّسة على كلّ حال. ثمّ أكّد قُرب هذه الرّحلة بقوله: «الرَّحِيلُ وَشِيكٌ».

ثمّ أردف عليه السّلام قائلاً: «مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ»، وهو بيانٌ واضح الدّلالة؛ فإنّ الإنسان قد ينازل غيره من أبناء الدّنيا، فيُحتمل أن يكون الحقّ معه أو عليه، وقد يَغلِب أو يُغلَب. أمّا إذا أبرز جبهته لمواجهة الدّين والحقّ الإلٰهيّ، فلا مفرّ له من الهلاك، ولا تكون عاقبته إلا الخسران. فقولُه: «مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ» جملةٌ جازمة لا تستثني أحداً؛ فمَن وقف في وجه الحقّ الإلٰهيّ فقد تعرّض لمهلكةٍ محتومة.

ثمّ بيّن عليه السّلام أنّ للإنسان طريقَين للوصول إلى الغاية المنشودة: أحدهما الصّبر، والآخر الدّعاء، وقد يجتمع هذان الطّريقان أحيانًا. ليس الأمر أنّه إذا صبر فلن يصل إلى المقصود، أو أنّه قد سار في طريقٍ خاطئ؛ بل الطّريق هو هذا. فالإنسان يحتاج إلى الصّبر والدّعاء بحسب زمنه وظروفه، فلكلّ أمرٍ زمان ومكان ووسائل يجب تدبيرها. أحيانًا تكون مصلحة الإنسان في أن يصبر ويتحمّل؛ لأن ما قدّره الله له لم يحن وقته الآن، بل قد يتحقّق –لحكمة ما– بعد يومين مثلا، فيستفيد بذلك خيرٌ لم يصل إليه لولا الصّبر.

فالصبر طريق مضمون للوصول إلى الهدف، وما دعا الإمام عليه السّلام للصّبر إلا لأنّه سبب أكيد للوصول، كما ورد: «مَنْ لَمْ يَنْجُهُ الصَّبْرُ أَهْلَكَ الْجَزَعُ»؛ أي أنّ الجزع والاضطراب لا يوصل إلى نتيجة، بينما الصّبر يضمن وصول الإنسان إلى مبتغاه، إلا إذا فاته الأجل أو الفرصة.

وعن سؤال الإنسان حين يردّد: «متى ترانا ونراك؟»، لا يعني استنكارًا أو تذمّرًا من الله، بل هو سؤال واستفهام: متى يرتفع هذا البلاء؟ أو متى يُتمّ الله وعده؟ وفي مقام انتظار ظهور الإمام يُردّد: «متى نراك ونراك؟» أي طلب اللّقاء والحضور، لا شكوى ولا تذمّر.

وعليه، في زياراته يقدّم المؤمن سلامه على جميع أوضاع الإمام وأحواله قائلاً: «السّلام عليك حين تقرأ وتبيّن»، أي حين يفسّر القرآن أو نهج البلاغة أو كلمات النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فلا ينقطع التّواصل مع الإمام. وكذلك: «السّلام عليك في آناء ليلك وأطراف نهارك»، أي سلام دائم في عبادته لله عزّ وجلّ، في كلّ وقتٍ ومقام. حينئذٍ نحن نرجو مثل هذا الأمر، لا أن نتذمّر، ولا -والعياذ بالله- نعترض. نحن نقول لوجوده المبارك: «مَتَى تَرَانَا وَنَرَاكَ؟» أي: إلى متى ترانا بينما نحن لا نراك؟

وهذا النّوع من الأدعية والأذكار هو في حقيقته طلبٌ للّقاء أو لغيره من المقامات، سواء أكان ذلك في المنام أم في اليقظة. فالنّوم عند المؤمن علامة من علامات العناية الإلٰهيّة. فقد نال كثير من الأنبياء والأولياء نصيباً من الحقائق في عالم الرّؤيا، ولم يقتصر ذلك على يوسف عليه السّلام، بل شمل أنبياء آخرين أيضاً. فالمنام نعمة من نعم الله، ليس غفلة وسهوًا، بل هو مدرسة يتعلّم فيها الإنسان ما لم يُدركه في اليقظة، وفرصة للتّدبّر والتّفقّه. ومن هنا جاءت السّنن العمليّة: أن ينام الإنسان بخفّة، متوجّهًا إلى القبلة، ومعه ذكرٌ معين، كما لو كان ذاهبًا إلى فصلٍ دراسيّ ليستفيد من الدّروس والمعارف. وهكذا تتّضح للإنسان كثير من الحقائق في عالم الرّؤيا.

كما ذُكر سابقًا أنّ مَن أظهر وجهه لمواجهة الحقّ يُهلك، ومَن لم يُنقذه الصّبر والجلَد لا يُفلح الجزع في حلّ مشكلته؛ فالإنسان يحتاج أحيانًا إلى الصبر، وأحيانًا إلى النّحيب والبكاء. فالبكاء نعمة عظيمة، كما جاء: «وسلاحه البكاء»، فالإنسان الذي يملك قلبًا رقيقًا ورؤوفًا، يكون بكاؤه تضرّعًا إلى الله، وذاك سلاحه في الحرب على الشّيطان، على النّفس الأمّارة، على أعداء الدّاخل، وعلى الجهل. فإنّ البكاء هو سلاحنا الوحيد في هذه المعركة: تضرّع وانكسار أمام ذات الله، وهذا ما يعينه على الصّمود في مواجهة الشّرور والضّلالات.

إنّ النّحيب والتّضرّع أمام الذّات الإلٰهيّة المقدّسة هو ما يُسلّح الإنسان ويُعينه على الانتصار على أعدائه الدّاخليّين، كما جاء في الشّعر: إذا لم يكن هناك عدوّ داخليّ… فلا خوف من العدوّ الخارجيّ.

وبهذا السّلاح الرّوحيّ، يستطيع المؤمن أن يغلب عدوّه الدّاخليّ، وأيضًا أن يواجه الأعداء الخارجيّين. فالغاية من هذا البكاء والتّضرّع أمام الله هي أن يحلّ كثيرًا من مشكلات الإنسان الرّوحيّة والنّفسيّة، بينما في مواجهة الغريب والعدوّ لا يخضع المؤمن ولا يرضخ لمطالبهم أبدًا، لأنّ سيادة الإسلام والمجتمع المسلم هي الغاية العليا، وما دونها لا يخضع له المؤمن على الإطلاق.

لا أعلم إن كنتم قد اطّلعتم على ذلك الدّعاء النّورانيّ للإمام السّجاد عليه السّلام في صحيفته المباركة، أو دعاء الإمام الباقر وأهل البيت في يوم عرفة، حيث يرفعون أيديهم لله تعالى ويقولون: «يا ربّ، لا يوجد في العالم أحدٌ أضعف منّي، ولا في الوجود أحد أدنى منّي». وفي ختام دعاء يوم عرفة في صحيفة السّجّاد نجد نفس المعنى: كلّما انخفض الإنسان في تواضعه وذلّه، ارتفع عنده عظم شأن وجلال الله. فمن يضع نفسه في مقام العدم، يرى كلّ شيء ملكًا لله، وتكون له حصّة من النّعم الإلٰهيّة، فالعزّة الحقيقيّة تظهر في ظلّ الذّلّ، مع أنّ الله تعالى قال: ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ﴾، إلّا أنّ المقصود أنّ العزّة الحقيقيّة كلّها لله تعالى: ﴿الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾. فكما يفسّر القرآن بعضه بعضًا، نجد أنّ كلّ عزّة وجلال، كلّ كمال وجمال، إنّما يكون من عنده وحده: «يا ربّ ولا يُوجد إلا من عندك». وهذا هو معنى التّوحيد الحقيقيّ.

والغرض من هذا البيان أنّ هناك طريقَين يمكن أن يجتمعا في الوصول إلى الغاية، دون أن يُحدث أحدهما تناقضًا مع الآخر: طريق البرهان، وطريق الوجدان والشّهود.

طريق البرهان: كما جاء في القرآن: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، حيث تتجلّى آيات الله في الكون وفي النّفوس، فتُظهر الحقّ بوضوح.

طريق الشّهود: يتمثّل في أن الله ينيمنا كلّ ليلة ويوقظنا، أي يقرّبنا من حضوره ويعيدنا. فالمنام هو مفارقة مؤقّتة للجسد والدّنيا، والانفصال عن العالم المادّيّ، بحيث تصبح آفاق السّماء والأرض غير مهمّة، فتغدو الرّؤيا مدرسة للمعارف، كما نالها الكثير من كبار الأولياء والأنبياء. فالنّوم ليس خمودا، بل فرصة مناسبة لرؤية الحقائق الإلٰهيّة، والاستعداد ليوم اليقظة، والتّفاعل مع ما لم يكن الإنسان مدركًا له في اليقظة.

لقد كان للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله) طريقان يجتمعان معًا في التّربية والتّعليم: الطّريق الأساسيّ كان الخطابة والتّعليم، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أي: إذا جاءك المؤمنون لطلب العلم، قبل أن تبدأ خطبتك أو تعليمك سلِّمْ عليهم. وهذا ما يُرى في دخول الخطيب على الحاضرين؛ فالسّلام من السّنّة والأدب الإسلاميّ، وأيضًا من آداب محفل النّبيّ صلّى الله عليه وآله. فالمحفل العلميّ محفل مبارك، ومنشأ للعناية الإلٰهيّة. وكان النّبيّ يسلّم على تلامذته، والواجب عليهم الرّدّ: «وعليكم السّلام». وبعد أن ينهي حديثه أو خطبته، كان يسأل تلامذته: «هَل مِن مُبَشِّرَات؟»، أي: ماذا رأيتم في عالم الرّؤيا اللّيلة الماضية؟ وكأنّ هذا امتحان يومي: ما الذي رأيتَه وتعلّمتَه في عالم المنام؟

وهكذا تتّضح طرق التّربية عنده: التّربية الظّاهرة: تعليم ظاهر للقرآن، نحو، صرف، والعلوم الظّاهرة. والتّربية الباطنة أو الشّهودية: أي ما يتعلّمه التّلميذ من عالم الرّؤيا واللّقاء مع الحقائق الباطنة، وما يسمعه في المنام، فهذا تفسير باطنيّ وعلميّ في الوقت نفسه. فالإنسان ينام لكي يستيقظ، وليس ليغرق في النّوم، فالنّوم مدرسة حقيقيّة للمعرفة الرّوحية.

ومثال على أدب النّبيّ صلّى الله عليه وآله: إذا حدث في مجلسه أن تجشّأ أحدهم، كان يعالج الموقف برقيّ وأدب، كما حدث مع أحد التّلاميذ الذي قال له: «اكْفُفْ جُشَاكَ»، أي: توقّف عن هذه العادة في المجلس. فهذا بيان تربويّ لطيف، يُظهر كيف كان يحافظ على الأدب ويهذّب التّلامذة في الوقت نفسه، مع التّوجيه الصّحيح دون عنف أو تجريح. هناك حين يكون التّعليم ظاهرًا، أي تدريس العلوم الظّاهرة كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، وهذه كانت دروسًا ظاهريّة يُلقيها النّبيّ صلّى الله عليه وآله في المسجد.

أمّا حين كان يسأل تلامذته: «هَل مِن مُبَشِّرَات؟»، أي: ماذا رأيتم في المنام اللّيلة الماضية؟ فهذا نوع آخر من التّعليم، يقوم على السّؤال والجواب، لكنّه ليس عاديًّا كما في تفسير الآيات أو مسائل النّحو والفقه، بل يُركّز على ما شاهده التّلميذ في عالم الرّؤيا والباطن. فمثلاً أجاب أحد التلاميذ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي»، وهذا يُظهر الطّريقة التي كان يتربّى بها المريدون، تربيتهم على الشّهود والمعرفة الرّوحيّة الباطنيّة إلى جانب العلوم الظّاهرة.

فالإنسان أمامه طريقان للعلم والتّربية، ولا يُختصّ هذان الطّريقان بالأئمّة المعصومين فقط. فالمعصوم له مقام خاصّ، لا يصل إليه أحد عبر التّفكير البشريّ؛ لا المعجزات ولا علم الغيب الخاصّ بالمعصوم يمكن الوصول إليه بالعقل أو الدّراسة، وكما ذُكر في الجلسة السابقة، هناك علوم قريبة بالقاف، وهي تلك التي تُدرس في الحوزات والجامعات، وعلوم غريبة بالغين، وهي التي ليست جزءًا من الدّراسة النّظاميّة في الحوزات والجامعات، بل توجد في أماكن أخرى، سواء كانت محرّمة أو مباحة. فالسّحر والشّعوذة والخيال وكلّ ما يُعرف بالعلوم الغريبة لها موضوع ومحمول ومبادئ ومسائل، ويُمكن دراستها، وإن كانت محرّمة أو ضارّة، فهي علوم قائمة بذاتها. أما المعجزات فهي ليست من صنف العلوم، فلا يمكن لأحد أن يتعلّم درسًا ليحصل على معجزة. فالمعجزات تتطلّب ارتباطًا روحيًا عميقًا مع خالق الأرواح، كما في قول النّبيّ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاء»، وهذا النّوع من المعرفة لا طريق له عبر الدّراسة العقليّة وحدها.

في الحوزات اليوم، للطالب طريقان:

الطريق العلميّ: وهو الدّراسة والمناظرة، حيث يتعلّم ويصبح عالمًا.

الطريق غير العلمي: كما في أمور الحياة العمليّة، مثل التّجارة والزّراعة والابتكار، حيث قد يصبح الشّخص غنيًا أو ناجحًا عبر وسائل أخرى غير الدّراسة، لكنّ ذلك يتطلّب نوعًا من الارتباط أو التّوفيق الإلٰهيّ. فمثلاً التّاجر الذي ورث الثّروة أو التّاجر الذي أصبح غنياً بفضل جهود والده، هذا ليس عبر طريق علميّ. أما مَن درس واجتهد وأتقن عمله، فله طريق علميّ واضح يمكن تتبّعه وشرحه.

وهذا يعني أنّ العلم نوعان: علم الدّراسية، كما في الحوزة والجامعة. وعلم القلب والرّوح، كما عند الأئمّة والصّلحاء: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاء»، هذا يُكتسب بالصّلاة والعبادة والخلوة مع الله، ولا طريق فكريّ أو عقليّ للوصول إليه، بل هو فضل ربّانيّ.

فالمقصود أنّه ليس من علوم الدّراسية التّقليديّة، بل علمٌ خاصّ لا يمكن إدراكه إلا بالارتباط الرّوحيّ والعناية الإلٰهيّة.

المعجزات ليست من صنف العلوم التي يمكن للإنسان أن يتعلّمها ليفعلها، فهي ليست مكتسبة بالدّراسة أو بالمجهود العقليّ وحده. هذه الأمور تتطلّب ارتباطًا خاصًّا وموصولًا بالفضل الإلَهيّ، مثل الوراثة؛ فكما أنّ الوراثة ليست مكتسبة بحيث يمكن أن نقول: “ماذا فعلتَ لتنال هذا الإرث؟ لنفعل مثلك”، بل تحتاج إلى صلة ومقامٍ يُنقَل منه الفضل، كذلك المعجزات تحتاج إلى ارتباط بالذّات الإلٰهيّة.

العلم الدّراسيّ له موضوعه ومحموله ونسبه وأصوله، أمّا علم الوراثة أو علم المعجزات والعلوم الغيبيّة فلا يسير بهذه الطّريقة؛ لا يمكن للإنسان أن يدرس ليحصل على معجزة أو ليبلغ أسرار الغيب، فهذا ليس من علوم الدّراسة التّقليديّة.

انظروا إلى القرآن الكريم، هذا الكتاب المبارك، عندما يتحدّث، يتحدّث بحكمة دقيقة. فعندما أراد أن يتحدّث عن داود عليه السّلام، ذكر أنّ الله علّمه حرفة صناعة الدّروع: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾، وهذه حرفة يمكن للإنسان أن يتعلّمها ويمارسها، فهي علم مكتَسب بالدّرس والتّدريب. أمّا حين ذكر الله تليين الحديد في يد داود قال:﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾، فلا يمكن أن نقول إنّ داود تعلّم درسًا ليصنع هذا التّليين، بل هذا فضل إلٰهيّ مباشر.

فالمعجزات، علم الغيب، العصمة، كلّها أمور لا يُدركها الإنسان بالدّرس وحده، بل تحتاج إلى صلة روحيّة وارادة إلٰهيّة. فالقرآن الكريم يعبّر بدقّة عن هذا التّمييز: حيث يسمّي ما يمكن تعليمه «علمًا» كصناعة الدّروع، ويصف ما هو فضل إلٰهيّ -كالقدرة على تليين الحديد بدون علمٍ مكتَسب- بأنّه “ألنّا له الحديد”، أي نحن فعلنا، وهذا بيان لطيف لحكمة القرآن في التّفريق بين العلوم المكتَسبة، والعلوم الرّوحيّة الفريدة التي تحتاج إلى ارتباط مباشر مع الله.

السؤال: هل العلم بطبيعته قابل للتّعلّم؟

الجواب: نعم، العلم قابل للتّعلّم، لكنّ منشأ العلم قسمان:

العلم الدّراسيّ المكتَسب: مثل علم الدّراسة، علم الإنتاج، علم الزّراعة، علم الاقتصاد، وما شابه ذلك. هذا العلم يمكن تعلّمه بالدّراسة والممارسة، وله موضوع ومحمول وأصول، ويمكن للإنسان أن يكتسبه عبر الدّرس والبحث.

علم الوراثة أو التّقدير الإلٰهيّ: مثل أن يكون الشّخص ابن تاجر، ويموت الأب فينتقل المال إليه. هذا النّوع من المال أو الحظّ ليس من صنف العلوم التي يمكن أن ندرسها ونتعلّمها، فلا يمكن أن نقول: «ماذا فعلتَ لتنال هذا المال لنفعل مثلك؟». هذا مرتبط بالصّلة والمقام، فإذا كان وجود شخص ما مرتبطًا بهذا الطّريق، يناله حظّه. هذا ليس علمًا دراسيًّا، لا يعرفه الطّفل ولا البالغ، وإنّما يحصل عليه بحكم هذا الرّابط أو الإرث.

وكذلك المعجزات، فهي ليست من قبيل علوم الدّراسة، وكذلك علم الغيب، فلا يمكن للإنسان أن يدرس ليصبح مثل الإمام الصّادق عليه السّلام أو ليحصل على علم الغيب. هذه الأمور تحتاج إلى صلة وروابط خاصّة بالذّات الإلٰهيّة، مثل الوراثة أو التّقدير الإلٰهيّ.

إذن فالتّمييز واضح: إذا درس الإنسان علم الاقتصاد وصار عالمًا، فذلك علم دراسيّ مكتَسب. أمّا إذا كان ابن تاجر وورث ثروة والده، فلا يمكن أن نسمّي ذلك علمًا، فهذا مرتبط بالصّلة والميراث.

والقرآن يوضّح هذا التّمييز بلطف: ففي تعليم داود عليه السّلام حرفة صناعة الدّروع قال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾، وهذا علم يمكن تعلّمه بالدّراسة. أمّا حين ذكر تليين الحديد في يده قال: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾، فهذا ليس علمًا يُدرَّس.

لذلك للإنسان طريقان؛ أحدهما طريق السَحَر، حيث كان النّبيّ صلّى الله عليه وآله يسأل: «هَل مِنْ مُبَشِّرَات؟» أي: ماذا رأيتم في سَحَر ليلة أمس في المنام؟ كان يربّي هؤلاء التّلاميذ على هذا. كان يقول لهم: افعلوا هذا. ولو لم تُعطَ لهم معجزة، ولم يُكشف لهم علم الغيب، إلا أن كثيرًا من أسرار العالم –وهذه ليست من علوم الغيب ولا معجزات– تُكشف للإنسان. فرؤية الأحلام الصّالحة -مثلما رأى النّبيّ يوسف عليه السّلام- هي من الأمور الممكنة للإنسان: أن يرى حلمًا حسنًا ويُفسّر على نحو كذا وكذا. كان النّبيّ صلّى الله عليه وآله يقول لتلاميذه: «هَل مِنْ مُبَشِّرَات؟» ماذا رأيتم اللّيلة في عالم الرّؤيا؟ والحمد لله ربّ العالمين.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل