“المصلحة” سيف ذو حدين: مفتاح الهداية أم بوابة التحريف؟

وفقًا لتقرير مراسل اجتهاد، عُقدت جلسة متخصصة بعنوان “ماهية ودور المصلحة في التشريع” ضمن سلسلة الجلسات العلمية للمدرسة البرلمانية الثامنة التابعة لمركز البحوث الإسلامية لمجلس الشورى الإسلامي، بمشاركة جامعة العلوم الإسلامية الرضوية في مشهد المقدسة. في هذا المجلس العلمي، قدّم الأستاذ السيد محمود مدني بجستاني، مدرس خارج الفقه وأصوله في الحوزة العلمية بمدينة قم، عرضًا تفصيليًا حول موقع “المصلحة” المثيرة للجدل في المنظومة الفقهية والقانونية، مستعرضًا أبعاد الكشف عن مقاصد الأحكام وتأثيرها على تضييق أو توسعة النصوص القانونية.

المصلحة: ميدان مواجهة بين اتهام الجمود وخوف إلغاء الدين

استهل عضو المجلس الفقهي لمركز البحوث الإسلامية حديثه بتشبيه نقاش المصلحة بالسيف ذي الحدين، إذ لطالما كان محور صدام بين رؤيتين متطرفتين ومتضادتين. وأشار إلى الطابع الثنائي الحالي في هذا المجال، مؤكدًا أن النقاش حول المصلحة ذو وجهين يتبادلان الهجوم على بعضهما البعض. فهناك فريق يعتقد أن المصلحين يسعون من خلال عقلهم الجزئي إلى تقويض ثوابت الدين، ويصلون في نقدهم إلى التكفير. وفي المقابل، يتهم الفريق الآخر المناهض للمصلحة بالجمود، ومحاولة إبقاء الناس ضمن قوالب تقليدية تعود لأكثر من ألف وأربعمائة عام، مما يدفع بالنظام إلى طريق مسدود.

ورأى الأستاذ مدني بجستاني أن هذا التحدي الفكري ينبع من عدم التوضيح الدقيق لعلاقة “المصلحة” بالنصوص الشرعية، مؤكّدًا أن معالجة هذا الجدل تتطلب الإجابة عن سؤالين أساسيين:

أولًا: مدى إمكانية كشف البشر للمصالح ومعايير الأحكام.

وثانيًا: درجة حجية هذه المصالح في إحداث الحكم الشرعي أو تضييقه أو توسيعه أو تغييره.

ضرورة تأسيس “فقه المفاسد”: حلقة مفقودة في استنباط الحكم الشرعي

وأشار الأستاذ في الحوزة العلمية بمدينة قم في جزء آخر من مداخلته إلى نقطة مبتكرة في المنهج الفقهي، متحدثًا عن أهمية تأسيس “فقه المفاسد”.

واستند الرئيس السابق لجامعة الزهراء (سلام الله عليها) وأستاذ درس خارج الحوزة العلمية في قم، إلى المبادئ الأصولية للشيخ الخراساني (رحمه الله) في كتاب الكفاية، مشيرًا إلى أن الوجوب والتحريم ينبعان من مصدرين مستقلين هما: المصلحة والمفسدة.

وأكد أن المصلحة والمفسدة هما مصدران مختلفان للأحكام الشرعية؛ فالوجوب ناتج عن المصلحة، والتحريم ناتج عن المفسدة، ولا يمكن ببساطة القول إن ترك أي مصلحة يساوي بالضرورة وقوع المفسدة.

ورأى الأستاذ مدني بجستاني أنه كما وُضعت ضوابط ومعايير لترتيب وتصنيف “المصالح”، فإنه يجب كذلك تطوير فقه مستقل لـ”المفاسد”، فغياب الانتباه إلى فقه المفاسد بجانب فقه المصالح يؤدي إلى قصور في إدارة المجتمع عند مواجهة التحديات المستجدة، خصوصًا في مقام الترجيح والتزاحم بين المصالح والمفاسد.

تفحّص أدلة المعارضين والرد على التحديات الكلامية

وواصل الأستاذ مدني بجستاني عرضه بتحليل مفصّل لأدلة المعارضين لإمكان كشف المصلحة وتطبيقها، مُنتقدًا ثلاث شُبهات رئيسية لديهم:

1.تنقية المصلحة من جذورها العامة:
ردًا على الشبهة القائلة إن المصلحة (الاستصلاح والمصالح المرسلة) مستمدة من فقه أهل السنة، أكّد مدني أن فخر الشيعة يكمن في التبع المطلق لكلام المعصوم (عليه السلام)، إلا أن الاقتباس الأولي لمصطلح أو نظرية لا يمنع من دراسة وتنقية هذا المفهوم ضمن الفقه الشيعي.

وأوضح ذلك بمثال الإجماع، حيث استُمدّ في البداية من عند أهل السنة، لكنه نَمَا في الفقه الشيعي وأصبح وسيلة لكشف قول المعصوم (عليه السلام). وأضاف أن هذا يشبه الفلسفة الإسلامية، التي وُضعت بذورها في اليونان، لكنها صُقلت ونُمّيت في حضن الإسلام.

2.العقلانية في ضوء الوحي:
وأشار إلى روایات مثل: «إِنَّ دِینَ اللَّهِ لَا یُصَابُ بِالْعُقُولِ»، موضحًا أن هذه النصوص لا تنفي استخدام العقل كليةً، إذ إن الشيعة معروفة بتقديرهم للعقل والعدل. وأشار إلى أن ما يستخلصه المؤيدون من آيات وروایات، هو استنتاجات تسمح للشارع بالتمييز بين ما يُعد مصلحة معتبرة، ويُخصص به النص العام.

3.علاقة المصلحة بأبدية الأحكام:
وبيّن الأستاذ مدني، استنادًا إلى قاعدة: «حلال محمد (صلوات الله عليه) حلال إلى يوم القيامة»، أن المصلحة ليست مناقضة للأحكام الأصلية، بل تُعد من “العناوين الثانوية” مثل الضرورات، التي تشكل جزءًا من منظومة الشريعة.
وأشار إلى أن العمل بالمصلحة التي يقرّها الشارع لا يعد خرقًا لكلام النبي (صلى الله عليه وآله)، بل هو تطبيق جزء آخر من الأحكام الإلهية لإدارة الظروف المتغيرة.

طرق اليقين في كشف المصلحة في فقه الإمامية

وقدّم عضو فقهاء مركز أبحاث مجلس الشورى الإسلامي نظريته المختارة على أساس مفهوم “الموجبات الجزئية”، مؤكدًا أن هناك في بعض الحالات وتحت ظروف خاصة إمكانية التشخيص القطعي للمصلحة، وحدّد طريقين أساسيين لتحقيق ذلك:

أ) القياس بالأولوية:
وقد اعتبر هذا الأسلوب، الذي عليه اتفاق فقهاء الشيعة، تجسيدًا واضحًا للعمل وفق المصلحة والمفسدة المكتشفة. وأوضح مثالاً لذلك نهي القرآن عن قول «أفّ» للوالدين، حيث يُستنبط من ذلك تحريم الضرب والإيذاء، وهو في الحقيقة عملية تحليل الحكم الأصلي لكشف المصلحة أو المفسدة الكامنة فيه، ثم تعميم ذلك على الحالات الأكثر شدّة.

ب) القياس بالمنصوص على العلة:
وأكد مدني بجستاني أنه حينما تُذكر علة الحكم صراحة في الرواية، يتفق الفقهاء على أن الحكم مرتبط بهذه العلة، مع مراعاة التعميم أو التخصيص بحسب العلة.
على سبيل المثال، إذا ذكرت رواية أن سبب تحريم الزنا هو حفظ النسب، فهذا يدل على أن حفظ النسب مصلحة أساسية لدى الشارع. وعليه، فإن أي عمل آخر يؤدي إلى اختلاط النسب، حتى وإن لم يكن مصداقًا فقهيًا للزنا، سيكون مبغوضًا لدى الشارع، لأنه ينتهك نفس المصلحة القطعية.

ترسيم حدود المصلحة الشيعية مقارنة بـ”الاستصلاح” عند أهل السنّة

ثم أكد الأستاذ مدني نقطةً مهمة، مفادها الفرق الجوهري بين المنهج الشيعي في المصلحة وبين ما يُعرف بـ “الاستصلاح”[1] في فقه أهل السنّة. وصرّح بأنه لا يُسمح إطلاقًا للعقل الجزئي بأن يحدد المصلحة بشكل مستقل. فالمصلحة المعتمدة هي تلك التي استُمدّت كليًا أو جزئيًا من الشريعة نفسها.

وبعبارة أوضح، المنهج الشيعي ليس اجتهادًا مقابل النص، بل هو استخدام نص شرعي لفهم أعمق وتمكين تعميم نص آخر، بحيث تضمن هذه العملية كفاءة الدين وفعاليته في مقام التشريع.

الرد على الشبهات: من دية الأصابع إلى مقاصد الشريعة

وفي ختام الجلسة، أجاب الأستاذ مدني على أسئلة الحضور. وفيما يتعلق برواية أبان بن تغلب وتعارض الدية مع القياس العقلي، أوضح أن هذه الحالات يجب النظر إليها على أنها تخصيص لقاعدة عامة، وأن وجود استثناء منصوص لا ينفي أصل القاعدة العقلية والعامة، ولا يلغي إمكان كشف المصلحة في الحالات الأخرى.

كما أوضح رداً على السؤال عما إذا كانت مفاهيم مثل “دور الزمان والمكان في الاجتهاد” للإمام الخميني (قده) أو “مقاصد الشريعة” للشهيد الصدر[2] تُعد نوعاً من الاجتهاد في مواجهة النص، بأن الاجتهاد في مواجهة النص يعني مخالفة نص قطعي دون الاستناد إلى أي حجة شرعية أخرى. أما هؤلاء العلماء العظام، فيستندون إلى نصوص أخرى وفهم الروح العامة للشريعة في اجتهادهم، وهو أمر معتبر تماماً. وأشار أيضاً إلى أن المصلحة في التشريع لا تختلف عن المصلحة في الفقه، وأن أي مصلحة تُعتمد كأساس للقانون يجب أولاً تنقيحها وإثباتها في الفقه.

وأخيرا، شدد الأستاذ مدني بجستاني على دعوة الحوزات العلمية والمؤسسات مثل مجمع تشخيص مصلحة النظام إلى القيام بأبحاث أعمق، مؤكداً أن وضع معايير وضوابط دقيقة لكشف المصلحة يمثل رسالة خطيرة تقع على عاتق النخب الحوزوية والأكاديمية، لضمان أن يكون هذا الجهاز الحيوي له إطار واضح في النظام التشريعي.

*ترجمة مركز الإسلام الأصيل


الهامش:

[1] المقصود من “الاستصلاح” ما هو المعروف لدى أهل السنة بـ”المصالح المرسلة”.

[2] لم نعثر على مثل هذا المصطلح في تعبيرات السيد الصدر رحمه الله.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل