ليلة رأس السنة تطرح اليوم أسئلة عميقة حول طبيعة التحولات الاجتماعية في العراق، بعد أن انتقلت من مناسبة هامشية إلى طقس واسع الحضور، مدفوع بتأثير الإعلام ووسائل التواصل أكثر من كونه امتداداً لهوية ثقافية راسخة.
لم تكن ليلة رأس السنة الميلادية، حتى وقت قريب، مناسبة ذات حضور واسع في الذاكرة الاجتماعية العراقية. فالمجتمع، بتكوينه الديني والثقافي، اعتاد أن يمنح الأولوية للأعياد والمناسبات ذات الجذور الدينية أو الاجتماعية المحلية، مثل الأعياد الإسلامية، والمناسبات العائلية.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحولا ملحوظاً في شكل استقبال رأس السنة، مع بروز عادات وطقوس جديدة، يصفها باحثون اجتماعيون بأنها دخيلة أو مستوردة ثقافياً، دخلت إلى المجتمع العراقي عبر العولمة، والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي.
الألعاب النارية… فرح مستورد بطابع خطِر
أبرز هذه العادات تتمثل في إطلاق الألعاب النارية والـ“جراغيات” مع حلول منتصف الليل. هذا السلوك، الذي لا يمت بصلة إلى التقاليد العراقية القديمة، تحول في بعض المدن إلى ما يشبه طقساً إلزامياً للاحتفال، رغم ما يرافقه من مخاطر أمنية وصحية.
وتسجل المستشفيات سنوياً إصابات متفاوتة، في وقت تحذر فيه الجهات الرسمية من تحول الفرح المؤقت إلى مأساة دائمة، خاصة مع استخدام الألعاب النارية بشكل عشوائي أو إطلاق النار في بعض المناطق.
وفي هذا الصدد، وبالتزامن مع قرب احتفالات أعياد رأس السنة، اكدت قيادة عمليات بغداد عدم السماح باستخدام الألعاب النارية المفرطة لما تسببه من أذى وإزعاج للمواطنين، إضافةً إلى ما تشكله من مخاطر على السلامة العامة والممتلكات.
ودعت القيادة، المواطنين إلى الالتزام بالتعليمات والإجراءات المعتمدة، والتعبير عن مظاهر الفرح والاحتفال بأساليب حضارية وآمنة، بما يحفظ الأمن والسكينة العامة. كما اكدت قيادة عمليات بغداد أنها ستتخذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين، حرصاً على سلامة الجميع.
زينة الميلاد في كل مكان
من العادات الدخيلة الأخرى انتشار زينة رأس السنة والميلاد في الأسواق والمنازل والمراكز التجارية، بما في ذلك الأشجار الاصطناعية، الأضواء الملونة، والقبعات الحمراء.
ورغم أن هذه المظاهر ترتبط تاريخياً بالمجتمعات الغربية أو بالمسيحيين تحديداً، إلا أنها باتت تستخدم على نطاق أوسع في العراق، حتى بين عائلات لا تحتفل تقليدياً بهذه المناسبة، في محاولة لمواكبة “الموضة الاجتماعية” أكثر من كونها قناعة ثقافية.
طقوس غذائية بلا جذور
كما ظهرت معتقدات غذائية جديدة مرتبطة بليلة رأس السنة، مثل الإقبال على أطعمة معينة بزعم أنها تجلب الحظ أو الوفرة في العام الجديد. هذه الطقوس، التي لا أصل لها في الموروث العراقي، انتقلت عبر المحتوى الرقمي والتجارب الفردية، لتتحول إلى سلوك مكرر لدى بعض الأسر، خصوصاً في المدن الكبرى.
حفلات بدلاً من المجالس العائلية
شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً نسبياً في الطابع العائلي الهادئ، مقابل صعود ثقافة الحفلات الصاخبة في المطاعم والفنادق وقاعات الاحتفال.
“الترند” بديلاً عن العادة
وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً محورياً في تكريس هذه العادات، إذ تحولت ليلة رأس السنة إلى مناسبة للاستعراض الرقمي، عبر مقاطع الفيديو، البث المباشر، والتحديات والرقصات، في مشهد يرى فيه مختصون انتقال الاحتفال من كونه فعلاً اجتماعياً إلى “محتوى”.
قراءة اجتماعية
في هذا السياق، تقول الباحثة الاجتماعية نضال الباوي إن ما يشهده العراق اليوم “ليس احتفالاً بقدر ما هو محاكاة ثقافية غير واعية”، موضحة أن “الكثير من هذه العادات لا تنبع من حاجة اجتماعية حقيقية، بل من الرغبة في تقليد نماذج خارجية فرضها الإعلام والعولمة”.
وتضيف الباوي أن “المشكلة لا تكمن في الفرح نفسه، بل في فقدان البوصلة الثقافية، حيث يتم تبني الطقس من دون فهم سياقه أو ملاءمته للبيئة المحلية”، مشيرة إلى أن “هذا النوع من السلوك يكشف عن صراع صامت بين الهوية المحلية والضغط الرمزي للثقافة العالمية”.
وترى الباحثة أن المجتمع العراقي “ما زال محافظاً في جوهره”، إلا أن الأجيال الشابة “أكثر عرضة لتبني العادات المستوردة، خصوصاً عندما تُقدَّم على أنها حداثة أو تحرر اجتماعي”.
بين الرفض والقبول
في المقابل، لا تزال قطاعات واسعة من المجتمع تنظر إلى هذه المظاهر بنوع من التحفظ أو الرفض، معتبرة إياها غريبة عن القيم والتقاليد، أو مرتبطة بثقافات لا تعبر عن الهوية العراقية.
وبالمحصلة، تبدو ليلة رأس السنة في العراق اليوم مختلفة عما كانت عليه قبل عقدين. هي ليلة تعكس تحوّلات اجتماعية عميقة، وصراعاً غير معلن بين الأصالة والتقليد، وبين الفرح كقيمة إنسانية، والطقس كمنتج ثقافي عابر للحدود.