وكالة أنباء الحوزة | خلال السنوات الأخيرة، برزت إحدى العلامات الواضحة على تغيّر الذائقة الثقافية والإعلامية لدى شريحة من المجتمع، ولا سيما جيل الشباب، في تراجع معدّل قراءة الكتب مقابل ازدياد الإقبال على الاستماع إلى البودكاست؛ وهي ظاهرة لا يمكن فصلها عن التحوّلات المتسارعة للتكنولوجيا في العصر الراهن، ولا عن عمليات تشكيل الذائقة الثقافية والإعلامية.
تحوّل ملموس في نمط العيش الثقافي
بحسب تعبير الدكتور برنيا رضيبور، أستاذ علم الاجتماع، فإن التحولات التكنولوجية كانت على الدوام مصحوبة بتغيّرات في الثقافة وأنماط العيش وأساليب استهلاك المنتج الثقافي. ولا يمكننا أن ننظر إلى هذه التحولات نظرة نقدية محضة لمجرد حدوثها، لأن التغيّر سمة أصيلة في المجتمعات الحيّة.
وفي الوقت نفسه، ينبغي الالتفات إلى أن كل ظاهرة اجتماعية وثقافية تخلّف آثارًا وتداعيات متنوّعة، يكون بعضها إيجابيًا وبعضها الآخر سلبيًا بطبيعة الحال.
وأضاف أن هذه التداعيات تعتمد إلى حدّ كبير على كيفية الاستخدام، وحجمه، ومستوى وعي المستخدمين. فالبودكاست، بوصفه أحد المنتجات الثقافية للعصر الحديث، ولا سيما في زمن باتت فيه سرعة الوصول إلى المحتوى عنصرًا حاسمًا، يمكن أن يخلّف آثارًا مختلفة على أفراد المجتمع، فضلًا عن كونه يوسّع دائرة الوصول إلى المحتوى لفئات أوسع من الناس.
أداة لتعزيز الثقافة السمعية في المجتمع
وتابع رضيبور قائلًا: إن هذه الأداة قد تكون بالغة الفائدة للأشخاص المشغولين، ولذوي المستويات التعليمية المختلفة، وكذلك لمن يعانون من إعاقات جسدية أو مشكلات بصرية، كما تسهم في تعزيز الثقافة السمعية وتوسيع دائرة تبادل المعرفة داخل المجتمع.
غير أنّ الخطر يكمن في أن تحلّ البودكاستات محلّ الكتاب والقراءة المتعمقة بشكل كامل، إذ قد يؤدي ذلك إلى تسطيح المعرفة العامة.
وأشار أيضًا إلى أن التعلم السطحي، وتراجع القدرة على التحليل والتفكير النقدي، بل وحتى انتشار المعلومات المضللة، من بين النتائج المحتملة لهذا الاستبدال. وعليه، فإن هذا الوسيط الإعلامي يمكن أن يكون ـ تبعًا لمستوى وعي المستخدمين ونمط الاستفادة منه ـ فرصةً للارتقاء بالوعي الاجتماعي، أو عاملًا مضعفًا للعمق الثقافي في المجتمع عند سوء استخدامه.
المهم هو نوعية الاستخدام وكيفيته
وأوضح هذا الأستاذ الجامعي وعالم الاجتماع أنه لا يمكن الجزم، على نحو مطلق، بأن المجتمع الذي يعتمد أكثر على البودكاست سيتعرّض حتمًا على المدى البعيد لضعف في إنتاج الفكر والنقد؛ إذ إن المسألة لا ترتبط بالبودكاست أو المنصات بحد ذاتها، بقدر ما ترتبط بكيفية إدماجها في النظام الثقافي والتعليمي للمجتمع.
وأضاف: البودكاست ليس سوى أداة لنقل المحتوى، ولا يحدّد بذاته عمق التفكير أو جودة النقد. فإذا استُخدم كمصدر مكمّل إلى جانب قراءة الكتب، والكتابة، والحوار، والتعليم الرسمي، فلن يؤدّي بالضرورة إلى إضعاف إنتاج الفكر والنقد.بل قد تسهم البودكاستات أحيانًا في إثارة أسئلة جديدة، وخلق فضاء للحوار، وإتاحة الموضوعات التخصصية، بما يحفّز العقل النقدي ويعزّز المشاركة الفكرية.
أما إذا تحوّلت تدريجيًا إلى بديل عن القراءة المتعمقة والكتابة التحليلية والمواجهة الجادة مع النصوص العلمية والفكرية، فإنها قد تمهّد على المدى الطويل لتراجع عمق التفكير، وضعف إنتاج الفكر المستقل، وانخفاض القدرة على النقد التحليلي.
طاقة مهمة قد تصبح أحيانًا عاملًا سلبيًا
وبيّن رضيبور أن التفكير العميق يحتاج إلى مواجهة طويلة الأمد مع النصوص، وإلى إعادة قراءة، وتأمّل، ومراجعة فكرية؛ وهي عملية تتشكّل غالبًا عبر القراءة والكتابة، ولا تتحقّق بمجرد الاستماع إلى المحتوى الصوتي.
ومن هنا، فإن الخطر الحقيقي لا يكمن في البودكاست بحد ذاته، بل في هيمنة الاستهلاك السمعي على الإنتاج الفكري الفاعل. فإذا حلّ الاستماع محلّ التفكير والكتابة والنقد، اتجه المجتمع نحو الاستهلاك الفكري.
لذلك، فإن الحفاظ على التوازن بين الوسائط السمعية والنصوص المكتوبة، ورفع مستوى الوعي الإعلامي لدى الجمهور، يُعدّ الشرط الأساس للحيلولة دون إضعاف إنتاج الفكر والنقد على المدى البعيد.
وسيلة إعلامية منخفضة التكلفة
من جهتها، أشارت الدكتورة مينو سليمي، أستاذة الأنثروبولوجيا وعضو الهيئة التدريسية في جامعة طهران، إلى الإقبال اللافت على البودكاست في إيران، قائلة: إن وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم تتجه من النمط الرسمي إلى الإعلام الشخصي. ويتيح البودكاست فضاءً غير رسمي وأقل خضوعًا للرقابة، الأمر الذي جعله بديلًا عن الإعلام التقليدي.
وأضافت أن الجمهور الإيراني يبحث عن روايات متنوّعة، ويوفّر البودكاست إمكانية اختيار الموضوع والمتحدّث بحرّية.
وأكدت أن البودكاست وسيلة مناسبة من حيث الكلفة، إذ لا تتطلّب إنترنت عالي السرعة أو نفقات مرتفعة، ما يجعلها خيارًا ملائمًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. كما يمكن الاستماع إليها أثناء التنقّل، أو الأعمال المنزلية، أو ممارسة الرياضة، وهو ما يمنحها طابعًا عمليًا.
*ترجمة مركز الإسلام الأصيل
