التبليغ الديني في مستوى جهاد التبيين: من الرد على الشبهات إلى إنتاج المنطق

الحوزة – في الحرب الناعمة المعاصرة، تتحقق الانتصارات عبر استحواذ العقول، لا الأراضي. فالدعوة الدينية الفعّالة يجب أن تحول الإيمان إلى فهم عقلي مدافع عنه. ويُنجز ذلك عبر اختيار الموضوعات بدقة، والخروج من دائرة الردود التفاعلية فقط، وبناء قواعد فكرية تُمكّن الداعية من إنتاج المنطق بدل الانغماس في الردود المستنزفة، ليصبح الجمهور قادراً على مواجهة الهجوم الفكري بوعي وتمكين.

ففي ميادين اليوم، الانتصار لا يتحقق بالسيطرة على الأرض، بل بالاستيلاء على العقول. وإذا استطاع العدو فصل الإيمان عن المنطق، فقد انتصر في الحرب الناعمة حتى دون مواجهة مباشرة.

في هذا السياق، لم يعد واجب الداعية الديني محصوراً في نقل الحقائق فقط؛ بل القضية الجوهرية هي كيفية تحويل الإيمان إلى «فهم عقلي قابل للدفاع». فإذا أرادت الدعوة الدينية أن تظل مواكبة لعصرها، لا بد لها من الدخول الواعي والممنهج إلى ميدان جهاد التبيين، حيث الكلام بلا منطق لا يكفي، بل قد يصبح جزءاً من المشكلة ذاتها.

نقطة الانطلاق في هذه المهمة هي «تحديد الموضوعات». فلا يمكن للداعية تجاهل واقع النزاع الفكري القائم في المجتمع، ومناقشة قضايا لا صلة لها بأسئلة وتردّدات وهجمات العدو. فالموضوع الدعوي يكون حيّاً ومؤثراً حين يتقاطع مع مركز الهجوم الفكري للعدو، وفي الوقت نفسه يبرز في خطاب واهتمامات القادة الفكريين للمجتمع الديني.

وإذا لم يتحقق هذا التقاطع، فإن الكلام الصحيح يُقال في غير موضعه ويفقد أثره. فالطالب والداعية الذي لا يعرف ساحة النزاع الفكري، يظل على الهامش ويترك الجمهور وحيداً في قلب المعركة الفكرية.

لكن معرفة الموضوع ليست سوى الخطوة الأولى؛ فالأهم هو طريقة المواجهة. فقد أظهرت التجارب أن مجرد الرد على الشبهات، بشكل متقطع وعشوائي، لا يحل القضية، بل يخلق نوعاً من الإرهاق الدائم للداعية. فالعدو ينتج الشبهات بتكلفة منخفضة، ويتوقع من المؤمن أن يقضي ساعات وأياماً لتفكيكها. في مثل هذا الواقع، إذا بقيت الدعوة في موقع رد الفعل فقط، ستظل دائماً خطوة خلف الهجوم.

جهاد التبيين الفعّال يتطلب الخروج من هذه الدائرة نحو الابتكار العقلي، ابتكار يرفع تكلفة إنتاج الشبهات على العدو. والطريقة لذلك هي الانتقال من الردود الجزئية إلى «بناء القواعد الفكرية». كما هو الحال في المنهج العلمي الحوزوي، حيث ننتقل من مسائل متفرقة إلى قواعد عامة، يجب في الدعوة الدينية أن نستخلص من الشبهات المتعددة مبادئ عامة تفسر مجموعة من التساؤلات، بحيث يصبح الداعية منتجاً للمنطق، لا مجرد مستجيب للشبهات.

فعلى سبيل المثال، في مواجهة الشبهات حول دور إيران في التطورات الإقليمية ودعم محور المقاومة، فإن الرد العاطفي أو الشعاري لا يقنع ولا يدوم. أما الداعية الفعّال، فيفسر القضية ضمن قاعدة عقلية: في منطقة تسعى فيها القوى الاستعمارية إلى تقسيم الدول وزعزعة الأمن ونقل الأزمات إلى الداخل، فإن تكلفة المقاومة الاستباقية أقل بكثير من تكلفة الانغماس في حرب داخلية وفوضى مزمنة. وعند عرض هذا المنطق بشكل صحيح، يدرك الجمهور أن كثيراً من القرارات الكبرى لم تُتخذ عاطفياً، بل على أساس حساب عقلاني للتكلفة والفائدة. وهذا النوع من التبيين قادر على مواجهة طيف واسع من الشبهات، دون أن يُجبر الداعية على الدخول في جدالات استنزافية.

في الختام، الدعوة الدينية على مستوى جهاد التبيين هي دعوة تتجاوز النقل الحرفي للمفاهيم لتصل إلى «إنتاج المنطق». فالطالب والداعية ليس ناقلاً فحسب، بل مرشداً للفهم، يساعد الجمهور على توحيد الإيمان مع العقلانية، ليصبح في مواجهة حرب الروايات غير عاجز. وحيثما تتمكن الدعوة من بناء المنطق، لا تُفشل الشبهات فحسب، بل يصل ذهن الجمهور إلى درجة من النضج تمنعه من الانقياد للعدو. وهكذا، يتحول جهاد التبيين من توصية أخلاقية إلى واجب علمي ذكي وفعّال في رسالة الدعوة الدينية.

*ترجمة مركز الإسلام الأصيل

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل