أشار السيد جعفر الحسيني في كتابه «التعريف بنهج البلاغة للإمام علي والرد على بعض الشبهات» إلى أسباب الجاذبية الخاصة لنهج البلاغة، وقال:
إن أتباع أهل السنّة، وعلماء الشيعة، وسائر المفكرين والعلماء المسلمين، وكذلك العلماء والمفكرين المسيحيين، وكل من تعامل مع نهج البلاغة ودرسه دراسة متأنية، قد تحدثوا ـ دون استثناء ـ عن الجاذبية القوية التي يتمتع بها نهج البلاغة، ورأوا أنفسهم واقعين تحت تأثيره ونفوذه العميق.
وهذه الجاذبية والقوة المؤثرة التي تُلمَس بوضوح في خطب الإمام علي عليه السلام ورسائله وكلماته القصيرة، كانت الدافع الأساسي لكثير من العلماء إلى شرح نهج البلاغة، أو تأليف الكتب وكتابة المقالات حول شخصية الإمام علي عليه السلام.
وسنتناول فيما يلي أهم الأدلة الواضحة على هذه الجاذبية:
أولاً: إن الجاذبية الأخلاقية والعرفانية في نهج البلاغة من القوة بحيث تروي الأرواح الظمأى بماء المعرفة الصافي. ففي كثير من الخطب، ومنها الخطبة الأولى وخطبة رقم (91) المعروفة بخطبة «الأشباح»، حين يتحدث الإمام عن معرفة الله وجاذبية صفات جماله وجلاله، يبلغ بيانه ذروة عالية تجعل القارئ يشعر وكأنه ممتطٍ أجنحة الملائكة، محلقاً إلى أبعد الآفاق التي لا يستطيع الفكر الإنساني تجاوزها. وتتجسد أمامه صورة فيلسوف إلهي عظيم، أفنى عمره في الحديث عن التوحيد، وعرّف الله تعريفاً يجعل الإنسان يراه بعين القلب حاضراً في كل مكان: في السماوات، وفي الأرض، وفي أعماق نفسه، فتفيض روحه بأنوار المعرفة الإلهية.
ثانياً: يتحدث نهج البلاغة في جميع مواضعه عن التعاطف مع الطبقات المحرومة والمظلومة من البشر، وعن مقاومة الظلم والجور واستبداد المستغلين والطغاة. وهو في كل موضع يدعو إلى بسط العدالة الاجتماعية ورفع كل أشكال الظلم والتمييز، ويؤكد على التوزيع العادل والمتساوي لبيت المال، وعدم تفضيل الأقارب فيه. حتى نقرأ في الخطبة رقم (224) من نهج البلاغة [ص 360، طباعة دار الثقلين – قم] أنه عندما طلب عقيل ـ أخو الإمام ـ صاعاً واحداً (نحو ثلاثة كيلوغرامات) من قمح بيت المال أكثر من حقه، أجابه الإمام بحديد محمىّ بالنار! ويحذّر أمير المؤمنين عليه السلام من أن تراكم النعم في أي موضع إنما يكون مقروناً بضياع حقوق إلى جانبها، بقوله: «ما رأيتُ نعمة موفورة إلا والى جنبها حقّ مضيّع».
ثالثاً: يسير نهج البلاغة دائماً في طريق تحرير الإنسان من قيود أسر الشهوات والأهواء التي تجرّه إلى الذل والشقاء، وكذلك من عبودية الطغاة المستبدين والطبقات المترفة المتسلطة. ويستثمر كل فرصة لتحقيق هذا الهدف المقدس. وفي خطبة الشقشقية (الخطبة رقم 3) يحذر الإمام من إبداء أي تساهل أو مرونة في إعادة روح الحرية والمساواة والعدالة، ويبيّن أن قبوله لمنصب الخلافة لم يكن إلا من أجل إحياء هذه القيم السامية.
رابعاً: يتغلغل نهج البلاغة وكلام الإمام علي عليه السلام في أعماق نفوس السالكين طريق الحق، ويحدث فيهم أثراً لا يوصف. ومن ذلك قصة «همّام»، ذلك الزاهد العارف الذي طلب من أمير المؤمنين أن يصف له صفات المتقين. فتردد الإمام أولاً، لكن همّام ألحّ في الطلب، فخطب الإمام تلك الخطبة العجيبة الفريدة التي لا نظير لها، وذكر فيها أكثر من مئة صفة من صفات المتقين. فما إن انتهى من خطبته حتى أطلق همّام صيحة، وسقط على الأرض، وفارق الحياة. [نهج البلاغة، الخطبة 193 «خطبة المتقين»، ص 313–317، طباعة دار الثقلين – قم].
ومثل هذا التأثير العميق للكلمة لا نظير له في التاريخ. وعندئذ قال الإمام علي عليه السلام:
«أما والله لقد كنت أخافها عليه»، ثم قال: «هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها»
أما السيد الشريف الرضي قدس سره ـ وهو من كبار الأدباء العرب ـ فقد استخدم بعد نقله لبعض الخطب تعبيرات تدل بوضوح على مدى افتتان الناس بهذه الخطب وانجذابهم الشديد إليها، بل وتكشف عن مدى تأثره هو نفسه بأمواج جاذبيتها القوية.
ومن ذلك:
يقول في ذيل الخطبة رقم (83) المعروفة بخطبة «الغَرّاء»:
«وفي الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ووجلت القلوب»
ويقول في ذيل الخطبة رقم (289):
إن كان ثمة كلام يدفع الناس إلى الزهد، ويحثهم على العمل للآخرة، فهو هذا الكلام بعينه؛ إذ يستطيع أن يقطع تعلق الإنسان بالآمال الطويلة، ويشعل في قلبه شرارة اليقظة والوعي، وينمي فيه الكراهية للأعمال القبيحة.
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه للخطبة رقم (109):
إن تأثير هذه الخطبة وجاذبيتها من القوة بحيث لو قُرئت على إنسان ملحد لا يؤمن بالدين، وقد عزم بكل قواه على إنكار البعث والقيامة، فإنها تكسر عناده، وتلقي الرعب في قلبه، وتضعف إرادته السلبية، وتحدث تصدعاً في أسس معتقده.
ثم يقول:
فليجزِ الله تعالى قائلها خير الجزاء على هذه الخدمة العظيمة للإسلام، أفضل الجزاء الذي منحه لوليّ من أوليائه. فما أروع نصرته للإسلام؛ تارةً بالسيف واليد، وتارةً باللسان والبيان، وتارةً بالفكر والقلب. نعم، إنه «سيد المجاهدين، وأبلغ الواعظين، ورئيس الفقهاء والمفسرين، وإمام أهل العدل والتوحيد».
[شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 7، ص 202].
