Search
Close this search box.

المنهج النبوي في التبليغ

المنهج النبوي في التبليغ

طريقة التبليغ

﴿يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجا مُّنِيرا﴾1.

“البشير” هو الذي يأتيك بخبر مفرح؛ فمثلًا إذا أردت أن تعهد إلى ابنك كي يقوم بعمل ما، فإنَّك تعالج ذلك بأحد أسلوبين أو بكليهما:

الأسلوب الأوّل: هو أسلوب الترغيب وبعث الأمل فيه؛ فإذا كنت تريد إلحاقه بالمدرسة-مثلًا-فتروح تشرح له فوائد الذهاب إلى المدرسة ونتائجه وآثاره، لكي تثير فيه روح الرغبة في ذلك.

الأسلوب الثاني: هو أنّك تأخذ بشرح العواقب الوخيمة التي سوف تترتّب على عدم ذهابه إلى المدرسة وبقائه أُمّيًّا وكذا وكذا. ولكي يتخلّص ابنك من هذه الحالة يوافق على الذهاب إلى المدرسة. إذًا فأنت إمّا أن تستعمل معه التشويق وتبشّره بما ينتظره فتجذبه من الأمام إلى ما تريد، وإمّا أن تستعمل “الإنذار” والتخويف، بالمعنى الذي ذكرته، وهو إعلان الخطر، أي أنَّك تدفعه من الخلف إلى ما تريد. ولهذا قيل: البشير قائد، والنذير سائق.

أمّا إذا اتّحد الاثنان–القائد والسائق–لتحريك الناس، فالنتيجة تكون أفضل؛ وكلاهما ضروريّان للبشر. أي أنَّ التبشير وحده لا يكفي وإن يكن لازمًا، وكذلك الإنذار، فهو وحده لا يكفي، ولكنّه لازم. وما تعبير “السبع المثاني” الذي يوصف به القرآن إلّا لكونه في جانب منه يقرن التبشير بالإنذار ويوردهما معًا، إذ من الخطأ أن تعتمد دعوة على التبشير وحده، أو على الإنذار وحده، بل ينبغي الاتّكاء عليهما معًا، على أن يكون ميزان التبشير أثقل، وميزان الإنذار أخفّ، كما يتّضح في القرآن حيث يُقدّم التبشير على الإنذار، فيقول: بَشِيرًا وَنَذِيرًا.

هناك واجب آخر هو “التنفير” أي حمل الناس على النفور من شيء ما. فقد يُخطئ المرء أحيانًا ويخلط بين الإنذار والتنفير، ويستعمل أحدهما مكان الآخر. فالإنذار يكون عندما يسوق النذير الناس إلى شيء ما، ولكنّ التنفير هو حمل الناس على الفرار من شيء ما، كما لو كان المرء يحاول أن يسحب حيوانًا لكي يقوده خلفه على الرغم منه، وفجأة يجذب الحيوان رأسه إلى الخلف بقوَّة ويقطع زمامه، ويفرّ هاربًا ممَّن كان يريد سحبه. وهذا هو التنفير.

فبعض الدعوات فضلًا عن كونها ليست سوقيّة، فإنَّها تكون تنفيريّة أيضًا، وهذا أمر نفسانيّ. فإذا عدنا إلى مثال الطالب والمدرسة نفسه، نلاحظ أنَّ الأبوين أو المعلِّم– في كثير من الأحيان-يُنفّرون التلميذ بدلًا من التبشير والإنذار، أي إنَّهم يفعلون ما يثير في نفس الطالب روح التنفّر والنكوص عن المدرسة. ولهذا نجد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يرسل معاذ بن جبل إلى اليمن2 لدعوة الناس إلى الإسلام يوصيه بما يلي: “يَسِّرْ وَلَا تُعسِّرْ وبشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ”3.

هذا كلام كبير يستوجب التوضيح. سأروي لكم بهذا الخصوص أمرًا عن رسول الله نفسه، ثمّ أبيّن الروايات الواردة عن الأئمَّة الأطهار في تفسير هذا الكلام وشرحه. إنَّ نفس الإنسان رقيقة وسريعة في إظهار التأثُّر وفي إظهار ردود الفعل، فإذا ضغط الإنسان على روحه ونفسه– بلا أرواح الآخرين– فسيكون ردّ الفعل هو النفور والفرار.

ففي العبادات–مثلًا–يوصي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلًا: اعبدوا بقدر ما في أرواحكم من نشاط للعبادة؛ أي أدّوا العبادات برغبة وميل. أمّا إذا أدّيت العبادات، وأقمت الصلاة، وأدّيت المستحبّات، وقرأت القرآن، وسهرت اللَّيل، حتّى أحسست أنَّ ذلك أصبح يثقل عليك وأنَّك تجد فيه صعوبة، أي أنَّك بدأت تحمل نفسك حملًا على ذلك، فاترك ذلك، ولا تحمل نفسك على العبادة حملًا؛ لأنَّك بالاستمرار على حملها على ذلك تثير فيها بالتدريج حالة من النفور والفرار، حتّى يصل بك الأمر إلى اعتبار التعبُّد كشرب الدواء، وعندئذٍ تتولّد في ذهنك فكرة سيِّئة عن العبادات.

هنالك أُمور كثيرة لها تأثير منفِّر، أي أنَّها تنفِّر الناس من الإسلام. فالنظافة في الإسلام سنّة مستحبّة مؤكّدة، والنظافة من الإيمان، ولعلَّ نبيّنا كان أنظف الناس في أيّامه، ولو كان اليوم بيننا لكان أنظف الناس، بلا ريب. من الأشياء التي لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يفارقها وكان يلتزمها دائمًا هو العطر والتعطُّر، وهو كذلك من المستحبّات.

فإذا كان شخص ما يرتدي ملابس قذرة متّسخة، وتنتشر من جسمه رائحة النتن والعفونة، فإنَّنا قد لا نستطيع أن نتّهمه شرعًا بارتكاب معصية، ولكن فلْنتصوّرْ أنَّ شخصًا قذرًا مثل هذا يقول لشابّ نظيف الملابس والبدن إنَّه جاء يدعوه إلى الإسلام. إنَّ كلام هذا الشخص، حتّى وإن كان من الدّرّ الثمين، لن يكون له أيّ تأثير.

يقول المتكلّمون– وهم على حقّ–إنَّ من شروط النبوَّة هو ألّا تكون في النبيّ صفة تُنفِّر الناس منه، بما في ذلك العاهة الجسميّة، على الرغم من أنَّنا نعلم أنَّ النقص الجسميّ قد لا يصيب الكمال الإنسانيّ بضرر. فإذا جاء رجل أعور، ينظر بجهة واحدة من وجهه، أفيكون ذلك سببًا في نقصه الروحي؟ كلّا، بل قد يصل إلى مقام سلمان الفارسي أو أرفع. ولكن أيمكن لمثل هذا الشخص أن يكون نبيًّا؟ يجيب المتكلّمون عن هذا السؤال بالنفي، ويقولون: لأنّ تلك العاهة تُثير النفور في الناس؛ إنَّه قد لا يكون نقصًا، ولكنّه يثير النفور. لذلك ينبغي أن تتوافر في النبيّ شروط جذّابة، حتّى من الناحية الجسميّة، لكيلا يُسبِّب النفور، وإن لم تُسبّب له نقصًا روحيًّا. إذًا إذا كان ينبغي أن تكون هيئة مبلّغ وداعية لله غير منفّرة، فالأولى ألّا يكون سائر خصائصه من سلوك وتعامل وأقوال منفِّرًا أيضًا.

وكثيرًا ما يكون هذا سببًا لكثير من المشاحنات والمعاتبات. والعتاب قد ينفع أحيانًا في استشارة مشاعر المخاطَب وتحريكه، ولكنْ لذلك أيضًا مكانه وزمانه، وقد يؤدِّي العتاب أحيانًا–كما يقول أبو نواس–إلى عكس المطلوب منه.

على كلِّ حال، ليست هذه قاعدة عامّة؛ ولكن قد يؤدّي العتاب الكثير إلى النفور والانكماش، ومن ذلك الخطأ الذي يقع فيه الآباء أو المعلّمون في تربية الأطفال؛ فهم دائمو التوبيخ للطفل ويلومونه على أتفه الأُمور ويحقّرونه بالكلام: ” انظر إلى ابن جارنا كيف هو! إنّه أصغر منك؛ أنت لا خير فيك؛ لم أعد أرجو فيك خيرًا…” ظانّين أنَّهم بذلك يثيرون الغيرة وحبّ المنافسة فيه، مع أنَّ ذلك يثير في الطفل ردّ فعل معاكس، بحيث أنَّه إذا تجاوز اللّوم حدّه أدَّى إلى إيجاد روح الانقباض والانهزام في الطفل، ويصبح مريضًا نفسيًّا، ويستحيل أن يقترب من الأمر الذي كانوا يحرّضونه إليه.

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي معاذ بن جبل وغيره بأن يبشّروا ولا ينفّروا.. ييسّر ولا يعسّر. ولا يكن حديثك كلّه عن المشكلات والصعاب، فإنَّك بذلك تخيف الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَلَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَلْمِسُ أَهْلِي فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِيَ النِّكَاحُ”4، فهل في الدِّين تسامح؟ نعم، إنَّ الدِّين سمح ومتسامح، ولكن لذلك أُصوله. كيف؟

الشريعة السهلة السمحاء
يقول الدِّين: توضّأ؛ ولكن هذا الدِّين نفسه يقول: إذا كنت مريضًا أو مصابًا بجرح وتخشى الضرر (ولا يقول إن كنت موقنًا من الضرر، ولا إن كان فيه ضرر حتمًا) من الماء، فتيمّم بدل الوضوء. هذا يعني السماحة، يعني الدِّين، فالدِّين ليس خاليًا من التسامح، بل فيه كلّ التسامح.

والصوم، أليس مهمًّا؟ ألا يرتكب ذنبًا عظيمًا من لا يصوم بغير عذر؟ ولكن عندما يحين حينه، يُظهر الدِّين تسامحه؛ فإذا كنت مسافرًا حيث يصعب الصوم، أو إذا كنت مريضًا، يقول الدِّين: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ ﴾5.

فأنت في هذه الحالات لا تصوم، بل تقضي صيامك في أيّام أخر؛ وحتّى إذا كنت مريضًا ولا تدري إن كان الصوم يضرّك مئة بالمئة، ولكنَّك تخشى إن صُمت أن يشتدّ مرضك، وقد تكون خشيتك هذه قد أثارها منك طبيب فاسق، وثمّة حديث يقول إنَّه ليس من اللازم أن يكون هذا الخوف قد وقع في قلوب الآخرين، ﴿ بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ﴾6، أي ليس من اللازم أن يثير فيك هذا الخوفَ شخصٌ آخر، بل إنَّك تخشى اشتداد المرض عليك إن صُمت، فلك ألّا تصوم وأنت في حالتك تلك. وهنالك حالات أُخرى؛ فالمرأة الحامل القريبة من موعد وضعها، والعجوز–رجلًا أو امرأة–حتّى وإن لم يخشيا ضررًا مرَضيًّا، بل لمجرّد احتمال ضعفهما، لهما ألّا يصوما.

كان المرحوم “آية الله الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري”، أعلى الله مقامه، يصوم على الرغم من كبر سنّه، فقيل له: “لماذا تصوم، مع أنَّك في فتواك وفي رسالتك قد أسقطت الصوم عن العجائز نساءً ورجالًا، فهل تغيّرت فتواك، أم أنَّك لا تعدّ نفسك من العجائز؟” فقال: “لم تتغيّر فتواي، وأنا أعلم أنّني عجوز”. فقيل له: “إذًا لماذا تصوم؟” قال: “إنَّه عرْق العامّة الذي ما يزال ينبض فيَّ”.

إذًا، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بُعثت على الشريعة السمحة السهلة. إنَّه دين عمليّ. والحقيقة أنّه دين عمليّ، والحقيقة أنَّ ما يجذب الناس من الخارج إلى هذا الدِّين هو سهولته وسماحته. قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ من يدعو لهذا الدِّين يجب إن يدعو لسماحة هذا الدِّين وسهولته، وعليه أن يفعل ما يُرغِّب الناس في هذا الدِّين.

شروط الدعوة
ومن المسائل الأُخرى في الدعوة للدِّين قول القرآن: ﴿ ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ﴾7.

هذه آية من الآيات التي تقصم ظهر الدعاة إلى الدِّين والمبلِّغين لرسالات الله.

تبيّن الآية أنَّ ثمّة شرطين يجب توافرهما في من يتصدّى للدعوة إلى الدِّين.

الأوَّل: هو أنَّهم يخشون الله؛ فقلوبهم ملأى بالخشية من الله: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ﴾8. ولقد جاء في دعاء كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو به: “اللَّهمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خَشْيَتِك مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبلِّغُنا بِهِ رِضْوَانَكَ، وَمِنَ اليقينِ ما يهُونُ عليْنَا بِهِ مُصِيباتُ الدُّنيا. اللَّهُمَّ أمْتِعْنا بأسْماعِنا وأبْصَارنا وقوَّتنا ما أحيْيتَنا، وَاجْعَلْهَا الوارثَ مِنَّا، واجْعَلْ ثَارَنَا على مَنْ ظَلَمَنا، وانْصُرْنا علَى مَنْ عَادَانَا، ولَا تَجْعَلْ مُصِيبتَنَا فِي دِينِنَا، ولا تَجْعَل الدُّنيا أكْبَر هَمِّنَا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا تُسلِّط عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا، بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ”9.

هذا دعاء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤه، فمن شاء فلْيحفظْهُ ويقرأْه، ولْيرجع إلى (مفاتيح الجنان) أو (زاد المعاد) ليرى أعمال ليلة النصف من شعبان، حيث يُقرأ هذا الدُّعاء، كما أنَّه يُقرأ في أوقات أُخرى أيضًا، لأنَّه دعاء جامع لمصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.

فالشرط الأوّل: الذي يطلبه القرآن من حامل الدعوة ومبلّغ الرسالة هو خشية الله. إذًا فما هي خشية الله؟ هي أن تكون هيبة الله وعظمته قويّة الحضور في قلبه، بحيث لا يمرُّ بذلك القلب مجرّد تصوّر الإثم إلّا وتكون الخشية من الله هي الرادعة.

والشرط الثاني هو: ﴿ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾. إنَّ “الخشية” تختلف عن “الخوف”. فالخوف هو القلق على العاقبة والمستقبل، والتفكير في نتيجة عمل ما، والتفكير في تدبر ذلك. أمّا الخشية فهي حالة تسلّط الرعب على الإنسان بحيث لا يجرؤ على أمر أو على تنفيذ ما يريد، وهذا يعني أنَّه يفقد شجاعته. فالتفكير في عاقبة أمر ما لتدبيره يختلف عن فقدان الشجاعة.

فالآية تقول إنَّ الذين يدعون إلى الله يجب أن لا تكون فيهم ذرّة من الجرأة على الله، فهم يخشون الله؛ ولكنَّهم إذا واجهوا غير الله يكونون متّصفين بالجرأة ذاتها والشجاعة نفسها، و ﴿ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾.

إنَّ من الخصائص الأُخرى في سيرة الأنبياء، وعلى الأخصّ في سيرة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم هي هذه الجرأة، وعدم التخاذل، والثبات. وهذه الخصيصة أشدّ ما تكون وضوحًا في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

كتب أحد الفرنجة كتابًا بعنوان (محمّد، النبيّ الذي تجب معرفته من جديد) فيه كثير من العيوب. ولكنَّني لست الآن بصدد عيوبه. وعلى الرغم من تلك العيوب، فمن الواضح أنَّه قد تعب كثيرًا في تأليفه، وأنَّه قد قرأ تاريخ الإسلام قراءة عميقة؛ بل إنَّه عاش مدّة في الحجاز لكي يطّلع عن كثب على المنطقة الجغرافيّة التي ولد فيها الإسلام. فالكتاب على هذا لا يخلو من نقاط حسنة، فإنَّه يجسّد نقطتين تجسيدًا جيّدًا.

الأولى: حكمة الرسول الكريم وتدبيره، بحيث أنَّ غير المسلم إذا قرأ الكتاب لا يسعه إلّا أن يقرّ بحكمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتدبيره.

والنقطة الثانية التي استطاع هذا الكتاب أن يجسّدها، هي تلك الظروف التي عاش فيها النبيّ الكريم، بحيث أنَّه لو كان أحد غيره مكانه لفقد شجاعته وتخلّى عن مهمّته، ولكنّ نبيّ الإسلام لم يطرأ عليه أيّ تغيير أو تلكّؤ مهما صغر؛ أي إنَّ الحوادث تجري مجرًى بحيث لا يبقى فيها للمسلمين أيّ أمل. في تلك الحالة تنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتراه كالجبل الراسخ ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾.

في الحقيقة، لا بدَّ لكم أن تطالعوا تاريخ حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الناحية (وينبغي مطالعتها من جميع النواحي) ليتّضح لكم كيف أنَّه كان يخشى الله، ولا يخشى أحدًا سواه، ولا يقف في طريقه أيّ حساب.

من شروط حمل الدعوة الأُخرى هو ما يذكره القرآن بصيغ مختلفة. فمرّة يقول:

﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴾10، ومرّة أُخرى يقول: ﴿ فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ﴾11.

في القرآن أمران يردان متقاربين “التذكُّر والتفكُّر”.

والتفكُّر هو محاولة الكشف عن شيء لا تعرفه، إعمال الفكر للوصول إلى ما لا تعرف. والتذكُّر هو استرجاع ما سبق لك أن عرفته. فما معنى هذا؟

هنالك أمور كثيرة موجودة في فطرة الإنسان، ولكنّ الإنسان غافل عنها، فهو بحاجة إلى التذكير ليتذكّرها.

وبعبارة أُخرى، للبشر حالتان: حالة يكون فيها جاهلًا، وحالة يكون فيها نائمًا؛ فكثيرًا ما يحدث ألّا نكون على علم بما يدور حولنا، فنحن مستيقظون ولكنَّنا لا نعلم. ومرّة أُخرى لا نكون على علم بما يدور حولنا لا لأنَّنا لا نعرف، بل لأنَّنا نائمون فعلًا؛ فالنائم يعرف كثيرًا من الأُمور، ولكنَّه واقع تحت تأثير حالة لا يستطيع معها الاستفادة ممَّا يعرف.

هذا في النوم الحقيقي، إلّا أنَّ للبشر نومًا آخر يطلقون عليه اسم (نوم الغفلة).

فالله تعالى في خطابه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيُّها النبيّ، لا تظنّنّ أنَّك تواجه الجاهل فحسب، بل إنَّك تواجه الغافل أيضًا، فاحمل الجاهل على التفكّر، والغافل على التذكّر. والناس يغفلون أكثر ممّا هم يجهلون. إنَّهم نائمون؛ فأيقظ النّيام، ونبّه الغافلين، فإنَّهم إذا تنبّهوا ساروا، كالقافلة التي أخذت تسير وبقي أحد أفرادها نائمًا فأيقظه، وعندئذٍ سيدرك بنفسه الخطر المحدق به، ولسوف يلتحق بالقافلة بغير حاجة إلى من يدفعه إليها. استنهض مشاعر الناس النائمة، فبعض الإيمان من يقظة المشاعر النائمة. ولذلك لا يوجد في الإسلام إجبار على الإيمان: ﴿ فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ﴾، و ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ﴾12.

الإكراه على الإيمان
إنَّ مسألة ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ﴾ قضيّة قائمة بذاتها جديرة بمن يقوم بشرحها شرحًا مفصّلًا. ولعلّني أفعل ذلك في جلسة مقبلة إن شاء الله. أمّا هنا فلا أزيد على بضع كلمات بهذا الشأن. فلماذا ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ﴾ في الإسلام؟

أوّلًا: إنَّ الإيمان ليس ممَّا يمكن فرضه فرضًا. إنَّ ما يريده الأنبياء هو الإيمان، لا الإسلام الظاهري، والإيمان لا يُفرض، لأنَّه اعتقاد وعلاقة وانجذاب، ولا يمكن إيجاد الاعتقاد في شخص ما بالقوَّة. إذا كان شابٌّ لا يحبّ فتاة، والفتاة لا تحبّ الشاب، أيستطيع أبواهما أن يحملاهما على أن يحبّ أحدهما الآخر، كيف يفعلان ذلك، أبالضرب والفلقة؟ أجل، قد يؤدِّي ذلك إلى حملهما على القول بأنَّه يُحبّ أحدهما الآخر، ولكنَّهما يكونان كاذبَين دون أدنى ريب، فحتّى لو كسَّروا كلّ عصي العالَم عليهما لا يمكن إدخال حبّ أحدهما في قلب الآخر، لأنَّه مستحيل بهذه الطريقة، لأنّها طريقة القوَّة والإكراه، بل بـ “الحكمة” و”الموعظة الحسنة” و ﴿… وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ ﴾13.

ثمّة حديث بوُدِّي أن أقرأه لكم. جاء في الأخبار أنَّ الإمام عليًّا عليه السلام كان على المنبر يومًا، يُكرّر على الناس ما كان دائمًا يُكرّره عليهم، وهو قوله في إحدى خطبه: “سلوني قَبْلَ أنْ تفقِدُوني”14.

وكان يقول إنَّه أعرف بطرائق السَّماء من طرائق الأرض؛ أي أنَّ لكم أن تسألوا عن أيّ أمر يبدو لكم عن السَّماء والأرض.

فقام من زاوية المجلس رجل دلَّت ملابسه وقيافته على أنَّه من يهود العرب، فقال بلهجة خشنة “أيُّها المُدّعي ما لا يعلم…” وراح يستهجن قول الإمام عليّ عليه السلام أنَّه يجيب عن كلّ سؤال، وأخذ يؤلم بكلامه، وكأنَّه تجرّأ على ذلك لعلمه أنَّ الإمام لا يمكن أن يردّ عليه بالمثل، فتململ أصحاب الإمام وهمّوا بالاقتصاص منه، إلّا أنَّ الإمام منعهم، وقال لهم: “البطش لا تقوم به حجج الله…” أي إن كان له ما يسأل عنه فليأت ليسأل، فإن اقتنع بالجواب فسيخجل من فعلته، أمّا إذا أردتم أن تقيموا حجَّة من حجج الله بالضرب والشتم، فليس هذا سبيله، بل سبيله اللّين واللّطف، لأنَّ المعني بذلك هو القلب والعقل والروح، فلا مكان للخشونة عندما تكون القضيّة قضيّة دعوة وتبليغ لرسالة الإسلام.

إنَّ الحسين عليه السلام عندما يكون في مواجهة الأعداء يرفع رأسه عاليًا، ولن يكون أحدٌ قادرًا على إنزاله، ولكنَّه عندما يواجه أشخاصًا عليه أن يرشدهم ويهديهم، فإنَّه يغضّ الطَّرْف حتّى عن إهمالهم وعدم اهتمامهم.

يتحرّك زهير بن القين بقافلته من مكّة، وكذلك يتحرّك الحسين عليه السلام، ويسعى زهير ألّا يتلاقى بالحسين عليه السلام، أي إنَّه ينحرف عن الطريق كلَّما أحسَّ أنَّ الحسين قريب من مكانه لكيلا يتواجها، قائلًا: إنَّه لا يريد أن تقع عينه في عين الحسين فيشعر بالحرج. والإمام يعرف ما يدور في خَلَد زهير، ولكنَّه يدرك أنَّ زهيرًا في حالة غفلة، إلَّا أنَّ الحسين يرى أنَّ عليه أن يرشده ويهديه. واتُّفق أن اضطرّ كلاهما للنزول في منزل واحد.

فضرب أبو عبد الله عليه السلام خيامه في طرف، وضرب زهير خيامه في طرف آخ، وأرسل الحسين يستدعي زهيرًا، على الرغم من معرفته أنَّه يتحاشاه. كان زهير وأصحابه قد مدّوا الخوان وجلسوا يتناولون الطعام. وفجأة دخل عليهم رسول الحسين يقول: يا زهير أجب أبا عبد الله. يقول أصحاب زهير: لقد أُسقط ما في يده، ولم يجد ما يصنع في إجابة الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله!

كانت لزهير هذا زوجة حصيفة، لمحت رسول الحسين وهو يدخل الخيمة ويطلب زهيرًا لرؤية الحسين، وعلمت أنَّ زهيرًا لم يُحِرْ جوابًا لا بالإيجاب ولا بالنفي. فأثارت هذه الحالة حميّة هذه المرأة المؤمنة، فتقدّمت إلى داخل الخيمة وخاطبت زهيرًا قائلة: ألا تخجل يا زهير، ابن بنت رسول الله يدعوك وأنت تتردَّد في إجابته؟! فنهض زهير فورًا وذهب إلى الحسين عليه السلام.

إنَّنا لا نعرف الكثير ممَّا جرى بينهما، ولكنّ الذي لا شكّ فيه هو أنَّ زهيرًا الذي دخل على الحسين خرج من عنده بروح جديدة. فزهير التعبان الكسلان الذي كان يشعر بالضجر ويتحاشى لقيا الحسين وذهب إليه مقطّبًا عبوسًا، خرج من عند الحسين ضاحك الوجه بشوشًا مسرورًا.

يقول المؤرّخون: إنَّ أبا عبد الله عليه السلام ذكّره بما كان منسيًّا في أعماق روحه؛ أي أنَّه أيقظ نائمًا من رقدته. عندما يكون ثمّة تبشير، أو ثمّة إنذار، ثمّة تذكير وتذكّر ويقظة، وتتحوّل الروح الكئيبة إلى تجسيد النشاط والطاقة. لذلك ما إن رجع إلى خيمته حتّى أمر بشدّ الرحال وأخذ يوصي: أموالي كذا، وأطفالي كذا، وعهد إلى من يوصل زوجته إلى أبيها. كان جليًّا أنَّه يودّعهم في رحلة لا عودة منها.

وقد أدركت زوجته العرّافة هذا قبل غيرها، فجاءت إليه وأمسكت بأذياله وبكت وهي تقول: أرأيت يا زهير كيف أنَّك قد بلغت مقامًا رفيعًا، فقد أدركت أنَّك سوف تذوق الشهادة في ركاب الحسين بن فاطمة، وسيكون شفيعك يوم القيامة، فاحذر يا زهير أن تفعل شيئًا يحول بيني وبينك يوم القيامة.

إنَّ هذا التذكّر وهذه اليقظة أوصلا زهيرًا الكاره لملاقاة الحسين عليه السلام إلى حيث أصبح في صدر أصحاب الحسين، حتّى أنَّ الحسين أعطاه الميمنة يوم العاشر من محرّم. لقد أبدى زهير من كرم المحتد والتفاني ما حدا بالحسين إلى أن يرثيه على رأس من رثى من أصحابه، عندما وقف وحيدًا وهو يرى أصحابه وأهل بيته مجندلين حوله كالأضاحي.

* كتاب الأسوة الحسنة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1 سورة الأحزاب، الآيتان 45 – 46.
2 اليمن من المناطق التي دخلت الإسلام بغير حرب. والسبب في إسلام أهل اليمن هو حكاية الرسالة التي بعث بها الرسول الكريم إلى “خسرو برويز” شاه إيران يدعوه فيها إلى الإسلام. لقد كتب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى جميع رؤساء العالم، ومنهم كان خسرو برويز شاه إيران، يبلغهم فيها رسالة الله. فلم يردّ بعضهم على تلك الرسائل، إلَّا أنَّ الكثير منهم أجابوا بإجابات فيها الاحترام والتواضع، بعد أن استقبلوا رسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإجلال والتكريم، وحمّلوهم الهدايا، مع أجوبتهم المؤدّبة.
أمّا الوحيد الذي لم يكن جوابه مؤدّبًا فقد كان خسرو برويز شاه إيران الذي مزَّق رسالة رسول الله. كانت اليمن يومئذٍ تحت حماية الفرس، وكان ملك اليمن من عملائه، لذلك أرسل شاه إيران رسالة إلى ملك اليمن يقول له فيها: لقد ظهر في جزيرة العرب رجل تجرّأ على أن يكتب لي رسالة يدعوني فيها إلى الإسلام، وقد كتب اسمه قبل اسمي (طبيعي أنَّ الرسالة كانت من فلان إلى فلان. ولكنّ هذا كان يريدها أن تكون: إلى فلان من فلان، للدّلالة على أنَّ كاتب الرسالة أدنى مقامًا من المرسل إليه) فابعث فورًا من يستعلم عن هذا الشخص واقبض عليه وارسله إليَّ مكتوفًا حتّى ينال عقابه.
فأرسل ملك اليمن رسولًا يُمثّله مع رسول شاه إيران إلى المدينة لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قالا له: إنَّ شاه إيران كتب يقول كذا، فما ردّك عليه؟ فطلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهما البقاء فترة لإعداد الجواب. وعندما عادا إليه، طلب منهما البقاء أيّامًا أُخرى لكي يردّ الجواب. وبعد أيّام جاءا يطلبان الجواب، فاستمهلهما أيّامًا أُخرى، وكذلك فعل عند عودتهما إليه مرّة أُخرى، حتّى أنَّه أبقاهما في المدينة مدّة تقارب الأربعين يومًا. وأخيرًا جاءا إلى النبيّ وقالا: إنَّه لا يستطيع أن يؤخّرهما أكثر من ذلك، فهما قد صمّما على العودة، وأنَّهما يريدان الجواب على رسالة (ربّهما) خسرو برويز. فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنَّ جوابكم هو هذا: البارحة بقر “شيرويه” بطن أبيه، خسرو برويز، وقضى عليه”.
عندما رجع هؤلاء إلى (بازان) ملك اليمن، وأخبراه بالخبر، لم يكن خبر مقتل الشاه قد وصل إليه بعد، لأنَّ المسافة بعيدة بين المدائن واليمن، فقال: سبحان الله إذا كان هذا صحيحًا، فإنَّه من علامات ثبوت نبوَّة هذا الرجل. فلننتظر. ولم تمض إلّا أيّام حتّى وصل مبعوث شيرويه بأنَّ خسرو برويز قد قُتل وأنَّه هو شاه إيران، وأنَّ عليك ألّا تتعرّض للشخص الذي يدّعي النبوّة في جزيرة العرب. من هنا بدأ التمهيد لدخول اليمن في الإسلام. ثم إنَّ اليمن كان فيها الكثير من الفرس. ولقد سبق أن قلنا في كتابنا (الخدمات المتقابلة بين الإسلام وإيران) إنَّ إسلام الفرس قد بدأ في اليمن ثمّ انتقل إلى فارس كلّها، وإنَّ الإخلاص الذي أبداه الفرس المقيمون في اليمن لم يُبده غيرهم، وذلك لأنَّ اليمن كانت من مستعمرات فارس، وكان الكثير من الفرس قد سكنوا اليمن، وكان يطلق عليهم اسم (الأحرار) أو (الأبناء)، وقد اختار هؤلاء الإسلام قبل غيرهم.
لقد أصبح نصف أهل اليمن من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولدعوة النصف الآخر إلى الإسلام أرسل رسول الله مرّة معاذ بن جبل، ومرّة أُخرى كانت في حجَّة الوداع، أي قبل شهرين من وفاة الرسول، وذلك عند رجوع عليّ عليه السلام من اليمن والتقى رسول الله في مكّة، فسأله: كيف أحرمت؟ أيْ أيّ حجَّة نويت، حجَّة التمتّع أم حجَّة أُخرى؟ فقال عليّ: في الميقات نويت على نيّة رسول الله، فنيّتي على نيّتك. فقال النبيّ: لقد صحّت نيّتك.
3 سيرة ابن هشام.
4 الكافي، ج5، ص494.
5 سورة البقرة، الاية185.
6 سورة القيامة ،الاية14.
7 سورة الاحزاب، الاية 39.
8 سورة فاطر، الآية 28.
9 العلامة المجلسي، بحار الانوار،ج2،ص63.
10 سورة الذاريات، الآية 55.
11 سورة الغاشية، الآيتان 21 – 22.
12 سورة البقرة، الآية 256.
13 سورة النحل ،الاية 125.
14 نهج البلاغة ،ص280.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل