الصفة الأولى:
ينبغي أن يكون المشرع متمتعاً بما لا نهاية له من المعرفة بكل المصالح الفردية والاجتماعية والجسمية والروحية والمادية والنفسية، لكي يتمكن من وضع قانون يشمل أبعاد كيان الإنسان كلها.
وهذه الصفة لا تتوفر إلا في الله تعالى، فهو الذي ينبغي له أن يضع القوانين لحياة البشر.
الصفة الثانية:
ينبغي أن يكون المشرع بعيداً عن الأنانية والتعصب الفئوي ويضع القانون طبقاً للحق والعدالة، حيث إن العلم بالمصالح والمفاسد لا يكفي وحده لواضع القانون، فقد نجد شخصاً يعرف المصالح القانونية جيداً لكن الميول الشخصية والعائلية أو الفئوية تمنعه من وضع القانون بالشكل الذي يراه مناسباً، فمثل هذا الشخص يقدم شيئاً باسم القانون يحقق في معظمه مصالحه أو مصالح فئته، وهكذا يجب أن يكون المشرع ـ فضلاً عن الوعي بالمصالح والمفاسد ـ شخصاً لا تؤدي به أنانيته وتعصبه الفئوي إلى إضاعة الحق والعدالة.
هذه القواعد التي ذكرناها توضح لنا أن البشر العاديين لا يتصفون بهذه الحصانة، أي أن كل إنسان يخضع ـ شاء أم أبى ـ لبعض الرغبات، ومن المستبعد جداً وربما من المستحيل حصول الثقة بحصانته التامة من اتباع الهوى والنزعات الشخصية، أما الله تعالى فهو عالم علماً كاملاً بالمصالح والمفاسد وكذلك لا يصيبه نفع أو ضرر من أي عمل.
إنه في غنى مطلق، ولا يتأثر بأية رغبة، فهذا إذن دليل آخر على وجوب وضع القانون من قبل الله تعالى، لأنه منزّه وبعيد عن الرغبات النفسية ومراعاة المصالح الشخصية والفئوية.
التوحيد والشرك في قضية التشريع:
التوحيد الذي يعد أساس الفكر الإسلامي يقتضي أن يكون واضع القانون هو الله تعالى وحده، بمعنى: إننا نعلم أن من شؤون التوحيد؛ (ربوبية الله التشريعية) أي كما أن على الموحّد أن يؤمن بأنه لا خالق إلا الله، وأن مدير العالم هو الله تبارك وتعالى وأن له ربوبية العالم التكوينية؛ أن يؤمن كذلك أن (الربوبية التشريعية) تختص به تعالى، أي يلزم إطاعة الله تعالى وحده، إطاعة مطلقة.
والخلل الذي أصاب إبليس فأدّى إلى كفره وهلاكه الأبدي هو النقص في هذه الربوبية التشريعية، وإلا فإنه كان مؤمناً بالربوبية التكوينية وبالمعاد، ولهذا أكد القرآن الكريم على هذا الموضوع كثيراً واعتبر الذين ينكرون الربوبية التشريعية مشركين، ولكن ليس كالمشركين الذين تسري عليهم الأحكام الخاصة بالمشركين في الظاهر، بل إنهم مشركون في الباطن ولن ينالوا السعادة التي تختص بالموحدين.
يقول تعالى بشأن أهل الكتاب: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباَ من دون الله﴾([1]).
أي أن اليهود والنصارى اتخذوا علماءهم ورهبانهم (أرباباً) وجعلوها شركاء لله ـ وكما ورد في الروايات بشأن تفسير هذه الآية ـاعتبروا طاعتهم المطلقة واجبة كطاعة الله وكان كل ما يقولونه مقدساً لديهم كقانون الله.
وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله بعد ذكر هذه الآية: “والله ما صلّوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية الله”.
على أية حال فإن (الربوبية التشريعية) تعني تسليم الإنسان أمام الله وإيمانه بأن حق الأمر والنهي يختص به تعالى وأنه وحده الذي يجب إطاعة أوامره كلها، أو الشخص الذي عيّنه الله تعالى للأمر والنهي أو الذين فوّض إليهم الله تعالى الأمر والنهي وأجازهم فيه، وإلا فليس لأي أحد حق أمر عباد الله ونهيهم بشكل مستقل. وهذه النظرة التوحيدية تقتضي أيضاً أن يختص حق التشريع في الأصل بالله تعالى، ولو وضع أحد غيره قانوناً ليأخذ به الناس فينبغي أن يستند إلى قانون الله ويصدر بإذنه التشريعي، والصفات التي ذكرناها للمشرع هي في الحقيقة أدلة أوردناها لإثبات هذا الأمر، وهناك أدلة أخر أيضاً ولكن أهمها هذه الأدلة:
أولاًـ علم الله المطلق، حيث يتمتع تعالى بالعلم اللامتناهي.
ثانياًـ إن الله لا ينتفع أو يتضرّر بسلوك الناس ولا يخضع في التشريع لتأثير الميول الفردية والفئوية بل يضع من القوانين ما يقتضيه الحق والعدل.
ثالثاًـ إن حق الولاية والتشريع والأمر والنهي يختص أساساً بالله تعالى، لأنه هو الرب، فالربوبية التكوينية والتشريعية تختص به أيضاً.
خصائص المشرع في القرآن:
فيما يخص الميزات التي ذكرناها للمشرع، يمكننا أن نورد آيات كثيرة من القرآن الكريم كشواهد على ذلك، ففضلاً عن الآيات التي تعتبر (الربوبية المطلقة) و(المالكية والملكية) مختصة بالله تعالى، مثل: ﴿يسبح لله ما في السموات وما فيالأرض الملك القدوس﴾ حيث تقتضي الملكية أن ينحصر بيده تدبير شؤون المجتمع ويطيعه الجميع، وكذلك الآيات التي تدل على (ولاية الله المطلقة ومولويته) والتي تقول إن الله مولى العباد والناس عباده فيجب عليهم إطاعة مولاهم، فضلاً عن هذه الآيات التي هي كثيرة جداً؛ هناك عدة مجموعات من الآيات الأخرى التي تدل على هذا الأمر، وهي:
أـ مجموعة الآيات التي تقول إن الحكم يختص بالله؛ ففضلاً عن الربوبية والمالكية والملكية وسائر العناوين التي تدل على التزام هذا الأمر، لدينا آيات تدل بصراحة على (أن الأصالة في الحكم تختص بالله) ومنها هذه، الآية الكريمة: ﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه…﴾([2]).
فكلمة (الحكم) تستخدم أحياناً للدلالة على معانٍ أخر غير المعنى الذي نقصده هنا، ولكن في هذه الآية يأتي بعدها بشكل مقصود قوله تعالى: ﴿أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾، ومن هنا يتضح تماماً أن الأمر والنهي من مستلزمات هذا (الحكم)، وهذه الحاكمية التي تختص بالله تعالى تقتضي أن يكون الأمر والنهي لله على العباد، وأن على العباد أن يطيعوا أوامره ونواهيه.
ب ـ كذلك هناك آيات كثيرة تدل على أنه يجب على البشر (التسليم المطلق) لله تعالى واتباع دينه وتعاليمه، ومن هذه الآيات: ﴿ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن﴾([3]).
فمعنى الإسلام أساساً هو كما قال الإمام علي (عليه السلام).
(الإسلام هو التسليم)([4]).
ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون﴾([5]).
والإنسان الذي هو من مخلوقات الله أيضاً عليه أن يطيع الله ولا يقبل ديناً غير الدين الإلهي، إذ يقول تعالى بعد آيتين: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾([6]).
ج ـ كما أن هناك آيات أخرى توجب على البشر الرجوع إلى حكم الله عند اختلافهم، مثل: ﴿وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله﴾([7]).
فمن الواضح أن القضايا الاجتماعية والحقوقية مما يحدث فيه خلاف وتضادّ فمن اللازم أن نطلب حكمها من الله ونأخذ منه قانونها.
وفي بعض الآيات يؤكد الله تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله) بأن عليه أن يحكم بما أنزل هو عليه وعدم اتباع هوى النفس أو ميول الآخرين وتجاهل الأوامر التي أنزلها الله عليه، ومن هذه الآيات: ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله﴾([8]).
﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾([9]).
ومن الواضح أن شخص النبّي (صلى الله عليه وآله) كان مبرّأً من هذا الأمر لكونه معصوماً، ولكن هذا الخطاب الإلهي كان من أجل التأكيد وكذلك لكي يعلم الآخرون أن أحكام الله ينبغي أن تراعى بدقة ولا تتجاهل أو تهمل، من أجل ذلك يؤكد الله تعالى مراراً على النبي (صلى الله عليه وآله) أن عليه أن يحكم بما أنزل الله، حيث يقول تعالى في ثلاث آيات متتاليات:
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾([10]).
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾([11]).
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾([12]).
فالتأكيد المتتالي على هذا الأمر يدل على أنه يحظى بأهمية كبرى عند الله تعالى حتى ظل يؤكد عليه ويكرره هكذا.
د ـ وأخيراً في القرآن آيات جاء فيها ذم كثير للذين يضعون من عند أنفسهم قانوناً ويعينون حلالاً وحراماً، وقد تعرض هؤلاء لاستنكار شديد وأدين عملهم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾([13]).
حيث يأمر الله تعالى نبيّه بأن يسأل الذين يحللون أموراً ويحرمون أخرى من عند أنفسهم فيحرفون بعض اللحوم ويحلّلون بعضاً آخر أي أنهم يحددون الحلال والحرام كما يشتهون ويضعون قانوناً من عند أنفسهم، أن يسألهم هل إن الله أذن لهم بأن يفعلوا ذلك أم أنهم يفترون على الله؟ فهذا الاستفهام الوارد في عبارة ﴿ءالله أذن لكم﴾ استفهام استنكاري، أي أنهم يفترون بالتأكيد، لأن الله لم يأذن لهم بأن يفعلوا ذلك.
وهكذا فالذي يحدد حلالاً أو حراماً دون إذن الله ويضع قانوناً للناس تشمله هذه الآية التي تصفه بأنه افترى على الله.
وفي آيات أخرى ورد ذم بهذا التعبير للذين يفترون على الله كقوله تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذب﴾([14]).
أي من هو أظلم ممن وضع من عنده قانوناً ونسبه إلى الله دون أن يأذن الله له بذلك؟ فلا ظلم أعلى من أن يضع أحد قانوناً من عند نفسه ويقدمه إلى الناس بعنوان القانون الإلهي ويدعوهم إلى اتباعه.
وفي سورة الأنعام خمس عشرة آية (من الآية 136 وحتى الآية 150) يذكر فيها الله تعالى مواضع مختلفة من الأحكام التي وضعها المشركون من عند أنفسهم وعينوا فيها الحلال والحرام، حيث أدان القرآن الكريم فعلهم هذا وصرّح بأنهم لا يملكون مثل هذا الحق بل عليهم اتباع ما أنزل الله الذي له وحده الحق في تشريع القوانين للناس وتعيين الحلال والحرام.
وفي سور أخرى أيضاً مثل النحل والكهف وهود والعنكبوت وغيرها آيات تحكي عدم مشروعية عمل هؤلاء الذين كانوا يضعون القوانين من عندهم ويريدون تطبيقها على المجتمع ودعوة الناس إلى اتباعها وتصفهم بالشرك، من كل ذلك نستنتج: أن القرآن الكريم يرى أن الله تعالى يعلم الحق والعدل أفضل من غيره بسبب ربوبيته التكوينية، وكذلك بسبب احاطته العلمية بصلاح الناس وفسادهم، حيث تقول الآية الكريمة: ﴿قل الله يهدى للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى﴾([15]).
فهو الذي يعرف الحق أصالة، ويحيط علماً بكل الحقائق والمصالح والمفاسد، وهو الذي يختص بالمولوية تجاه العباد الذين يجب عليهم إطاعته بحكم عبوديتهم له.
فلهذه الأدلة ينبغي أن يكون المشرع أصالة هو الله تعالى، وسوف نوضح أن هذا الكلام لا يعني أن الآخرين لا يحق لهم التشريع،حيث يمكن أن يدور الحديث في نظام الحكم الإسلامي حول أسلوب آخر من التشريع أيضاً شريطة أن يستند إلى إذن الله، فلو وجد شكل من أشكال التشريع يسير بموازاة القوانين الإلهية ويستند إلى إذن الله فلن يكون شركاً بل وينبغي اتباعه أيضاً، أما لو كان مستقلاً وغير مستند إلى إذن الله، فلن تكون له قيمة في نظر الإسلام، ولا يمكن اعتبار مضمونه إسلامياً، ولا يلزم المسلمين ـ كونهم مسلمين ـ اتباع مثل هذا القانون.
الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (قدس سره)
([1]) التوبة: 31.
([2]) يوسف: 40.
([3]) لقمان: 22.
([4]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 125.
([5]) آل عمران: 83.
([6]) آل عمران: 85.
([7]) الشورى: 10.
([8]) الشورى: 48.
([9]) الشورى: 49.
([10]) المائدة: 44.
([11]) المائدة: 45.
([12]) المائدة: 47.
([13]) يونس: 59.
([14]) هود: 18.
([15]) يونس: 35.