المهندس غريبي مراد عبد الملك كاتب وباحث إسلامي جزائري يحدثنا عن واقعة الطف
مدخل :
ما زلنا نستنشق نسيم كربلاء،و ما زلنا مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام،و لابد لنا أن نبقى في رحابه دائما، لان البقاء مع الإمام الحسين عليه السلام، بقاء مع رسول الله (ص) و مع الله تبارك و تعالى و إنفتاح على الطهارة و الصدق والإخلاص و العصمة و الرحمة و الأمانة و الشهادة، لأن الإمام الحسين عليه السلام من رسول الله (ص)، كما ورد في الحديث النبوي الشريف المتواتر عند كل المدارس الإسلامية إلا من جحد و استكبر عن هذه الحقيقة الكبرى : “حسين مني و أنا من حسين”.
و نبقى مع أبي عبد الله الحسين (ع) لنستلهم كيف نتحدث للناس عن الإسلام الحق في الفكر و الثقافة و السياسة و الاجتماع الذي نقدمه لعقولهم و قلوبهم و واقعهم و أحوالهم لتتوازن و تستقيم و تهتدي و تستجيب لله و للرسول لما دعاهم إليه من حياة كريمة…
و لابد في هذا المجال، أن ندرس المبحث الحسيني- عندما نريد قراءة شخصية الإمام الحسين (ع) قراءة جديدة تنهض بواقعنا من كبوته و تنهض بمجتمعاتنا من التخلف إلى التمدن الإسلامي –دراسة تحليلية راشدة، بعيدا عن كل الإستغراقات النفسية التي تنطلق من خلال التراكمات السوسيوثقافية للأزمات التاريخية. لأننا ورثنا من عهود التخلف أسلوب الحوار على طريقة الجدل البيزنطي، فكان التخلف…الجهل…العصبية هو طابع الواقع الإسلامي بحيث دوما نخنق الإيجابيات من خلال ملأ الساحة الإسلامية بإثارة السلبيات.
كان لابد من هذه التوطئة حتى ندرس سيرة الإمام الحسين (ع) جيدا، و نرصد كيف كانت رحابة عقله و رزانة فكره و حلم حراكه و إشراقة إسلامه و وجاهة صبره ؟ و كيف كان يحمل مسؤولية الإسلام و المسلمين في عقله و قلبه و آله عليهم الصلاة و السلام؟
إذا كنا نحب فعلا و واقعا الإمام الحسين عليه السلام و نحيي يوم شهادته بكربلاء كل سنة، ينبغي أن نطلق في هذا اليوم الحزن الإسلامي الذي يصنع الفرح الإسلامي و يجعل من الإبتلاء مدرسة للإستقامة، لأن كربلاء جامعة للحكمة الإسلامية و بستان لأزهار الثقافة الإسلامية و مكمن الثروات الروحية و العرفانية الإسلامية. لهذا لابد أن تكون ذكرى الإمام الحسين عليه السلام إنطلاقة جديدة للعلماء و المفكرين و المثقفين و الأدباء لأجل بناء و تنمية المناهج البحثية الخاصة بموضوع الإصلاح الإسلامي فكرا و عملا(سلوكا).
حتى يستوعب المسلمون الإصلاح في الفكر و الثقافة و السياسة و الإقتصاد و الإجتماع و في فهم الكون، من خلال فصول مقياس الشهادة في جامعة كربلاء الحسين عليه السلام.
و في ضوء ذلك، نجد أنه ليس لدى الإمام الشهيد الحسين عليه السلام شيء في الفكر و في السياسة و في الإجتماع و في الثقافة و في الحركة ككل إلا الخط الإسلامي الأصيل.فكان الحسين عليه السلام إماما بكل ما تحمل الكلمة من معنى و بكل ما تتسع له الكلمة في أبعادها الثقافية و السياسية و الاجتماعية و الإقتصادية و التربوية و الإعلامية و الإستراتيجية، فكان أسلوبه العملي يتمثل أسلوب رسول الله (ص) أعظم تمثيل. و في بعض أحاديثه عليه الصلاة و السلام قال:( أيها الناس قال رسول الله (ص) قال:” من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم و العدوان فلم يغر عليه،بقول و لا بفعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله”،ألا و إن هؤولاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمان و اظهروا الفساد، و عطلوا الحدود و استأثروا بالفيء و أحلوا حرام الله و حرموا حلال الله و أنا أحق من غير…)(1)
إن حديث الإمام الحسين عليه السلام هذا، جاء بصيغة النداء المبني للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، حيث يعطي حقيقة العلاقة الجوهرية بين شخص النبي الأكرم (ص) و الإمام الحسين عليه السلام من جهة، و صفة التحليل التربوي للمفاهيم السياسية كالقيادة و المسؤولية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى، من خلال توسيع دائرة المطارحة و الاستقصاء للمآزق التي تعوق حركة المجتمع الإسلامي في نشدانه للمطلب الحضاري القرآني. و أول ما نلاحظه في مستهل هذا الخطاب النبوي الحسيني، أنه لابد منا التحديق في البطولات و الأدوار بالإضافة لتحديقنا للأبطال، لأجل اكتشاف و تقصي خصوصية الخط الذي يمثله هذا الشخص البطل، فرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حدد لنا ملامح القيادة السيئة التي تفرض نفسها على الواقع الإسلامي و التي تستقطب الناس لخطها الانحرافي و تحجب عنهم الخط الإسلامي الأصيل.
ثم يتحدث الإمام الحسين عليه السلام بعد تبليغ الحديث النبوي، بأسلوب يضفي على المسألة بشيء من التفصيل و التحليل و التبسيط و التحريك أو بشيء من الحركية الرسالية الواقعية التي تتصدى لها الإمامة عند قصور القوم عن وعي مضمون النبوة بالنسبة لحراكهم العام في الحياة أو نكوصهم عنها أو تناسيهم لها.
حيث انطلق الإمام الحسين عليه السلام لتوصيف الواقع من خلال إسقاط النظرية الإسلامية النبوية عليه لمكاشفته، فبعد أن كان الحديث عن القائد أصبح حديثا عن الانحراف الذي صنع نظاما و أجهزة تخدم مصالح هذا النظام و تحمي أهدافه الإستكبارية.
من خلال ذلك نفهم، أن الشخص القائد الذي يكون سلوكه سييء في حركة القيادة للحكم، إذا إلتقى بمجتمع لا يبالي بواقعه أكان إسلاميا او غير ذلك، فإن هذا الواقع حتما يكون واقعا غير إسلامي، لأن شروط ذلك-التي حددها الرسول الأكرم (ص)- قد توافرت…
بعد هذه الإرهاصة الثقافية السياسية أو النظرية النبوية الحسينية لمفهوم القيادة بصيغة واقعية، جاءت المسؤولية الإسلامية لإنتاج التغيير، حيث قدم الإمام الحسين عليه السلام نفسه على انه الرمز الأول و الأجدر و الأصلح القادم للتغيير لا لتغيير الشخص و لكن لتغيير اتجاه القيادة و تقويم انحرافها على مستوى الشخص كقمة الهرم الانحرافي من ناحية و المجتمع كهيكل انحرافي من ناحية أخرى، و هذه الحقيقة نستشفها و نستوحيها في عدة مشاهد قصصية قرآنية، مما يركز لدى المسلم النبيه و السامع عن الإمامة و الولاية،أن الحراك الرسالي الإمامي معصوم طاهر، دائم الاتصال بالبصائر القرآنية والإمام هو العالم الوحيد بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بكنهها في كل تفاصيل حياته، لان الإمام بكله يعبر عن الإسلام الحقيقي…
من خلال ما تقدم أيها الأحبة، نفهم أن الإمام الحسين عليه السلام، العيش في رحابه الطاهرة و استحضار ذكراها الزكية العطرة يعلمنا المعالم الأساسية و السبل الكفيلة و العناوين القادرة على تحديد الطاغية و مواجهته و تغنينا أحاديثه عليه السلام بأساليب و مناهج الحراك التغييري و مبادئه حتى لا نستغرق في شخص الطاغية و نتناسى سمومه و أجهزته المنتشرة في المجتمع، و حتى لا نغفل عن الناس الذين يعشقون الذل و الهوان و يخدمون الاستكبار و المستكبرين. إن مسألة القيادة و مسؤولية التغيير مطالب نستوحي جل أبعادها و أسسها و ثقافتها من حركة الإمام الحسين عليه السلام لأنها الحركة العظيمة التي أغنت و تغني الوعي السياسي الإسلامي في مواجهة الظلم و الانحراف من جانب و ثقافة الإصلاح الإسلامي من جانب آخر، بحيث نخطط لإسقاط رأس الهرم الإستكباري و قاعدته، لا أن نخطط للرأس و نطمئن للقاعدة، التي تحتضن ألف طاغية و طاغية.و نبقى نلف و ندور مع مسلسل الثورة و الطاغية الشخص بدلا عن الثورة و الطاغية الفكرة (الطغيان)؟
أحبتي، كربلاء هي النظرية التطبيقية الإسلامية للثورة على الطغيان في الواقع الإسلامي عبر الزمن الإسلامي، لذلك نريد لكر بلاء أن تبقى في حياتنا من خلال بقاء الثقافة الحسينية النبوية القرآنية في وعينا واجتماعنا و إعلامنا وتبقى المفعل الثقافي الأساسي لكل مشاريعنا الإصلاحية…لأن الإمام الحسين عليه السلام عندما أراد الإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم درس الواقع الإسلامي كله،بقيادته الفاجرة و الفاسقة و بمجتمع هذه القيادة المارق و الماجن و المنافق، دون الإشارة إلى مواقع الفساد و الانحراف و التخلف و العصبية و الظلم ككل لأن الفساد كان شاملا و متجذرا، مما فرض عليه أن ينتج إصلاحا شاملا عظيما للتاريخ الإسلامي كله…
كربلاء هي : إحدى مصاديق عنوان الإمام الحسين عليه السلام و التي تختزن حركة إسلامية إنطلقت من عناوين إسلامية كبرى كالحوار و الثبات و اليقين و الإخلاص و الصدق و الأمانة و التوكل و الرضا و ما هنالك من قيم إسلامية كلما ذكرناها إستحضرنا شخصية أبي عبد الله الحسين عليه السلام كما نستحضر جده النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أبوه أمير المؤمنين عليه السلام و أمه الصديقة الطاهرة المعصومة عليها السلام و أخوه المجتبى عليه السلام و أخته العقيلة عليها السلام و الأئمة الأطهار عليهم السلام من ولده. حيث نجده عليه السلام حاور كل الناس من المدينة حتى كربلاء،حاور الحر بن يزيد الرياحي و أهل الكوفة و الذين جاءوا ليقتلوه باسم الإسلام و هم أعلم بأنه هو الإسلام الإنسان،بعد أن حاولوا أن يفرضوا عليه الخضوع لحكم الظالمين يزيد و بن زياد…هناك قال قوله الشامخ شموخ الجبال الراسيات، الخالد خلود الإسلام لان كلامه صميم روح الإسلام و من كان ذاته من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا يجعله الله عز وجل ينطق عن الهوى، بل ينطقه بالحق الذي يستمد من الوحي سر خلوده :”لا و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أقر لكم إقرار العبيد…”(2).
إن عاشوراء في كربلاء الأرض و كربلاء التاريخ، تريدنا أن نحييها في كل مكان ينطلق فيه الظلم و الإثم و العدوان و الاحتلال و الإستكبار، إن عاشوراء نحييها من خلال أجيال الشباب العاشقة للحسين عليه السلام و الصادقة في تشيعها لأهل البيت عليهم السلام، الشباب الرسالي الذي يبيت الليل عابدا لله و شاكرا نعمه و ينطلق في الفجر ليواجه الإستكبار بالجهاد الثقافي و السياسي و الأخلاقي و الإعلامي و الاقتصادي و الخيري و الإستشهادي في جنوب لبنان و فلسطين المحتلة و كل بلاد المسلمين بل كل العالم، هذا الشباب الذي من حقه أن يقول أنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و الإمام الحسن عليه السلام و الإمام الحسين عليه السلام و الأئمة الأطهار من ولده عليهم السلام و من حقه أن يتحدث عن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، لأنه يتحرك وفق الخط الإسلامي الأصيل.
إن تاريخ عاشوراء لن يتوقف في زمن السنة الهجرية 61، لأن مسألة عاشوراء أوسع و أكبر و أهدى من كل الحدود و النسبيات لأنها عنوان إسلامي رباني ممتد مع الواقع الإسلامي و الحياة كلها، يواجه الكفر الثقافي و الكفر السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الإعلامي و العسكري من خلال الثقافة الإسلامية العملية التي يشعها في بداية كل سنة إسلامية جديدة من تاريخ الهجرة النبوية الشريفة في نفوس و عقول المسلمين الصادقين و المخلصين…
إذا عاشوراء فكرة إسلامية تريد من الإنسان المسلم أن يتربى في رحابها على مواجهة الأمور برؤية إسلامية أصيلة و منطق إسلامي دقيق، و هناك نقرأ الفرق بين الإنسان المؤمن و الإنسان غير المؤمن…
لنتأمل عاشوراء بصدق و وعي و إيمان و نلج إلى أعماق كربلاء القيمة لنفهم لعبة الإستكبار العالمي في الواقع الإسلامي.
أيها المسلمون النبهاء، عاشوراء الحسين عليه السلام سر من الأسرار التي تتحدث عنها هذه الآية الكريمة:” و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم” (فصلت/34-35)
الهوامش:
(1)الكامل في التاريخ: ج2 ص552
(2)بحار الأنوار ج 45 ص 9