Search
Close this search box.

صلاة تحت الحِراب

صلاة تحت الحِراب

يقول الرّواة: «لما حلَّ وقت صلاة الظهر يوم العاشر من المحرم، أمر الحسين (عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي، أن يتقدّما أمامه بنصف ممن تخلّف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف، فوصل إلى الحسين (عليه السلام) سهم، فتقدّم سعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف يقيه بنفسه… حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهمَّ العنهم لعن عاد وثمود، اللهمَّ أبلغ نبيك عنّي السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك، ثم قضى نحبه رضوان اللّه عليه، فوُجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح»([1]).

علماً بأن الحسين (عليه السلام) حاول ليلة العاشر من المحرم تأجيل القتال عندما بدأ جيش العدو يزحف باتجاه معسكره، فأرسل أخاه العباس بن علي (سلام اللّه عليه)، ليتفاوض مع القوم حتى يُرجئوا القتال إلى الغد، ولم يكن ذلك خوفا من الموت أو خدعةً من أجل البحث عن مخرج، بل لكي يجد متسعا إضافيا من الوقت يصلّي فيه لربه ويُكثر من الدعاء والإنابة إليه، فقد قال لأخيه العباس (سلام اللّه عليه): «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلمُ أني قد أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدُّعاء والاستغفار»([2]).

لقد أظهر الحسين (عليه السلام) بلسان الحال بأن الصلاة هي أثمن ما في الحياة، وبأنّ لها نكهة خاصة في الظروف غير الطبيعية، حيث تُزوّد الإنسان المقهور بشحنات من النور، ودفقات من الحرارة الروحية، فتشد من عزيمته وتخفف من وطأة الخطوب عنه.
والمفارقة العجيبة التي حصلت في واقعة الطف، أن الحسين (عليه السلام) الذي صلى الظهر ـ كما أسلفنا ـ صلاة الخوف، كان أعداؤه يخافون من صلاته، لأنهم وجدوا فيها سلاحا فعالاً لتأجيج المشاعر وصحوة الضمائر عند مرتزقتهم، لذلك حاولوا بشتى السبل والحيل أن يمنعوه من إقامة شعائر الصلاة، لولا المعارضة التي أبداها بعض قادة وجنود الجيش الأموي، وخشيتهم من انقلاب الأوضاع لغير صالحهم، لا نقول هذا الكلام جزافا وانما نستند إلى أقوال الرّواة الذين نقلوا بأن الحسين (عليه السلام) عندما طلب من أخيه العباس إرجاء أو تأجيل القتال إلى الغد، فقد توقف عمر بن سعد ولم يُبد أي موافقة على هذا الطلب، ولكن بعد المعارضة القوية والاستهجان الذي قُوبل به من قبل بعض أفراد قواته أذعن لهذا الطلب المشروع، ووافق على مضض، وخاصة عندما احتج عليه عمرو بن الحجاج الزبيدي الذي قال مستنكرا ومستهجناً: «واللّه لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم من آل محمد! فأجابوهم إلى ذلك»([3]).

فكانت صلاة الإمام وعبادته الصادقة عندما تقدّم الصفوف بسيماه الملائكي وهو يضع على رأسه عمامة رسول اللّه المعروفة بالسحاب، كانت تشكل عامل جذب لبعض النفوس الخيرة المتحيرة، التي التبست عليها الأمور، وكانت تراقب سلوكيات المعسكرين لكي تتعرف على ملامح الحق ودلائل الصدق، فوجدت في الحسين (عليه السلام) وأصحابه سيماء الإيمان والصلاح والحرص على حقن الدماء، لذلك انجذبت إلى جبهة الحسين (عليه السلام) كما ينجذب الفراش نحو النور.

ويروى أنّ أصحاب الحسين (عليه السلام) باتوا ليلة عاشوراء ولهم دوي كدوي النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، ومن أجل تلك المظاهر الإيمانية النقية تأثّر البعض من الطرف المقابل وانضمّ إلى معسكر الحق.

يقول الرواة: «عبر عليهم ـ أي على أصحاب الحسين (عليه السلام) ـ في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً»([4]).

وفي ظل هذه الأجواء، فإننا لا نتجاوز الحقيقة إذا ما قلنا بأن القيادة اليزيدية سعت إلى عرقلة ومنع تلك المظاهر العبادية بشتى الأساليب وأقسى التدابير، وعند استقرائنا لتلك الاجراءات وجدنا أن الوثائق التاريخية تؤيد وتؤكد بأن هذه القيادة قد اتبعت أسلوبين أساسيين، هما:

الأول: أسلوب التشكيك
من خلال الإدعاء بأن صلاة الحسين (عليه السلام) لا تقبل لأنه ـ حسب زعمهم ـ قد شقَّ عصا الطاعة، وفارق الجماعة، ورفض البيعة ليزيد بن معاوية، وقد برزت تلك المزاعم الواهية بصورة علنية عندما استأذنهم الإمام (عليه السلام) لأداء فريضة صلاة الظهر، وطلب منهم أن يمهلوه حتى نهاية الصلاة، فقال له الحصين وهو أحد أقطاب الجيش اليزيدي: إنها لا تُقبل منك!. فردّ عليه الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي وقال له: زعمت انها لا تقبل من آل رسول اللّه، وتُقبل منك يا حمار!([5])، فحمل الحصين عليه، فخرج إليه حبيب بن مظاهر وضرب وجه فرس الحصين بالسيف فشبَّ به الفرس، ووقع عنه، فحمل أصحابه وجعل حبيب يحمل فيهم، فودع حبيب الحسين (عليه السلام)، وهو لم يكمل صلاته بعد، فقال للحسين (عليه السلام): يا مولاي اني اُحب ان أُتم صلاتي في الجنة. فاستشهد رضي الله عنه. ولما قُتل حبيب قال الحسين (عليه السلام) بحقّه مقولة خالدة: «يرحمك اللّه يا حبيب، لقد كنت تختم القرآن في ليلة واحدة وأنت فاضل»([6]).

وينبغي الإشارة هنا إلى أن أول قوة قتالية أُرسلت من قبل القيادة العامة اليزيدية التي كانت مؤلفة من ألف فارس بقيادة الحر الرياحي الذي التحق في صفوف قوات الحسين (عليه السلام) فيما بعد، قد صلى أفرادها وراء الإمام الحسين (عليه السلام) في منطقة ذي حسم. فقد قال الحسين (عليه السلام) للحر الرياحي: «أتريد أن تصلي بأصحابك؟» قال: لا، بل تصلِّي أنت ونُصلِّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين بن علي (عليه السلام) ثمّ دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحُرُّ إلى مكانه الذي كان فيه، فدخل خيمةً قد ضُربَتْ له واجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه([7]).

وهنا نتساءل فنقول: أليس الائتمام بالإمام الحسين (عليه السلام) من قبل تلك الجموع ـ التي جاءت أساسا من أجل صدّه ومحاصرته ـ يدلُّ دلالة واضحة على كون الحسين (عليه السلام) إمام حق وعدل تجوز الصلاة خلفه وتُقبل صلاة من اقتدى به؟
فهذا الموقف ـ إذاً ـ يكشف زيف وتفاهة تلك المزاعم ووهن ذلك الاتهام الذي تفوّه به الحصين بن نمير ومن شاركه في الرأي، كما يكشف عن تلك الازدواجية في تصرفاتهم، فهم يصلون وراء الإمام تارة، ثم يزعمون تارةً اُخرى بأن صلاته لا تُقبل! ثم يهدّدونه بالقتل، وينفذون تهديدهم.

علَّق العقاد ـ الأديب المصري المعروف ـ على تلك الازدواجية أو المفارقة العجيبة، بقوله: «مجمل ما يقال على التحقيق أنّه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلاّ وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام… وكان أعوان يزيد جلاّدين وكلاب طراد في صيد كبير. وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس، ونعني به مثال المسخاء المشوّهين، أولئك الذين تمتلىء صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيّما من كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عِدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود»([8]).

الثاني: أسلوب التخويف
بلغ هذا الأسلوب أقسى أشكاله، عندما انهالت السهام على الإمام وصحبه وهم منهمكون في أداء شعيرة الصلاة، علماً بأن الحسين (عليه السلام) ومن معه قد ألقوا السلاح، وأظهروا السلام واستسلموا للصلاة، واستأمنوهم لذكر اللّه.

يتساءل الشهرستاني، فيقول: «فهل ترى مظهرا للدين والحق أصدق من هذا؟ أفلا تُحترم الصلاة وهي حرم اللّه؟! أو لم يسمعوا كلام اللّه: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُوءْمِنًا﴾([9])»([10]).

ويُستنتج من كل ذلك بأن أعداء الحسين (عليه السلام) قد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم تعد تؤثر فيهم مظاهر إسلامية أو عواطف بشرية. لكن مع ذلك استمر الإمام (عليه السلام) بصلاته تحت مطر السهام ولم يستسلم للتهديدات المبطّنة أو المكشوفة التي حاولوا من خلالها قطع صلاته بربّه، والحيلولة دون تأجيجه لمعنويات جنده وجذب الآخرين إلى صفه. وكما تمكنوا من قبل من اغتيال أبيه وهو في محراب الصلاة، حاولوا اغتياله ضمن خطة ماكرة وغادرة وهو في أثناء الصلاة خصوصا بعد أن غدا هدفا مكشوفا ومجرّدا من وسائل الدفاع، ولكن روح الفداء التي تحلّى بها أصحابه في كربلاء عملت على إفشال تلك الخطة واحباطها، فقد جعلوا من أجسادهم دروعاً تحول دون وصول سهام الغدر إلى قائدهم الحسين (عليه السلام).

وقد أشرنا إلى موقف الصحابي سعيد بن عبداللّه الحنفي الذي صدَّ السهام التي انطلقت باتجاه الحسين (عليه السلام) وهو في أثناء الصلاة، وبعد أن قضى نحبه وجدوا في جسده ثلاثة عشر سهما!

وهذا صحابي آخر هو عمرو بن قرظة الأنصاري قد بالغ في نصرة الحسين (عليه السلام) وكان لا يأتي إلى قائده سهم إلاّ اتقاه بيده، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته، فلم يصل إلى الحسين (عليه السلام) سوء حتى اُثخن بالجراح فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال: يا ابن رسول اللّه أوفيت؟ فقال (عليه السلام): «نعم أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول اللّه عني السلام، وأعلمه أني في الأثر»([11]).

بهؤلاء الأبطال تمكن الحسين (عليه السلام) من إفشال خطة الاغتيال التي كانت تستهدف تصفيته وهو منكب على الصلاة.

أبعاد النهضة الحسينية، عباس الذهبي

([1]) اللهوف: 66.
([2]) الإرشاد 2: 90 ـ 91.
([3]) اللهوف: 54.
([4]) انظر: اللهوف: 57.
([5]) انظر: تاريخ الطبري 6: 237، حوادث سنة احدى وستّين.
([6]) ينابيع المودّة 2: 167، الباب الحادي والستون، طبع مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت.
([7]) الإرشاد 2: 79.
([8]) المجموعة الكاملة لأعمال العقّاد ـ الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء 2: 442.
([9]) سورة النساء: 4 / 94.
([10]) نهضة الحسين / الشهرستاني: 125.
([11]) اللهوف: 64.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل