المهندس غريبي مراد عبد الملك كاتب وباحث إسلامي جزائري يحدثنا عن واقعة الطف
و نستمر نستمد الدروس الرسالية والعبر الولائية من الذكريات الكربلائية، في ما عاشه الإمام الحسين عليه السلام و آله الأطهار عليهم السلام و أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، الذين قال عنهم عليه السلام: و الله ما رأيت أبر و أوفى من أصحابي، إنهم يستأنسون بالمنية استئناس الطفل بحالب أمه”.
هذه الكلمة و أمثالها التي تملأ صفحات عاشوراء، لابد أن نقف عندها بصدق لنستحضر واقعة الطف مأساة و رسالة، لأن المنية التي أحبها أصحاب الإمام عليه السلام و إستأنسوا بها، حدثنا عنها القرآن العظيم والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في عدة مواضع، ليس حديثا عن النهاية و لكن حديثا عن البداية إذا كانت نتيجة رسالية منفتحة على الله و أوليائه و رسالاته، لذلك عاشوراء ذكرى تعطينا دروسا عملية في طريقة مواجهة الظلم و الاستكبار من جهة و تعطينا دروسا في أسلوب النظر للأمور الطارئة، خصوصا المنية كأعظم أمر طارئ و مفاجئ…لأنها تكدر اللذات الدنيوية، و تفتح الباب واسعا على الاستحقاق الأخروي …
و يبقى الحديث عن عاشوراء، أيها الأحبة، حديثا عن المسؤولية الإسلامية في الحياة، لأن الله سبحانه و تعالى يريد منا أن نحرك الحرية و العدالة في واقعنا من خلال خط المعارضة و الرفض و المواجهة للظلم و الباطل و الاستكبار بكل أشكاله و أبعاده…
على أساس هذا المعنى، يمكننا أن نفهم مخاض كربلاء، تلك الأرض التي ارتوت بدم الرسالة الطاهر، تلك الأرض التي كانت تنتظر قدوم ركب الحرية و الحق و العدالة لتحتضنه، منذ بزوغ فجر الإسلام أو من قبل حسب الروايات الواردة بخصوص مقتل الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام بكربلاء …
فعندما نريد أن نحرك الثورة الحسينية، لابد أن نحرك الثقافة الحسينية أولا لتأصيل مسألة السلوك الثوري، و حتى لا يتخيل بعض المسلمين، أننا دعاة فتنة أو أصحاب عصبية، لأن مشكلة أغلب المسلمين يتعصبون بلا وعي ، منهم من يتعصب بلا موازنة و آخر يتعصب بلا ثقافة ، بل أكثر من هذا كله، منهم من يتعصب من أجل ملأ الفراغ … و ننتهي إلى ظلم الإمام الحسين عليه السلام من حيث أردنا نصرته ! ؟
في مسألة إحياء الثورة الحسينية، هناك فرق كبير عندما يكون مسارها منطلقا من خلال ثقافتها التي تختزن العلم الإسلامي كله و الشجاعة و البطولة و التقوى و الثبات و اليقين و الشهادة و الريادة والاجتباء كل المعاني الحميدة العظيمة التي تميز بها الإمام الحسين عليه السلام عن أي قائد آخر.
و عندما يكون منطلقا من خلفيات ذاتية تجعلنا نفصل مقاصد ثورة الحسين عليه السلام حسب أهوائنا، و نطلق عنوان الثورة الحسينية في شعارات غريبة عن الثقافة الحسينية…شعارات غالبا ما نثير بها الحساسيات المذهبية، بدلا أن نعرف الآخر عن ثقافة التمييز بين الحق و الباطل في النهضة الحسينية. والحقيقة الإسلامية تقول عاشوراء إسلامية، لأن يزيد لا يمثل السنة…نعم، قد يكون لبعض السنة بعض التحفظات حول ذلك، من خلال عدم وعيهم بالمؤامرة التاريخية على الإسلام ككل، و للثورة الحسينية بالخصوص ، على أنها ثورة لأجل مستقبل الأمة الإسلامية ككل، و ثورة على الظلم و الاستكبار في الواقع الإسلامي.
أيها الأحبة، ثورة الحسين عليه السلام ذات أصالة إسلامية و وقوعها كما أهدافها جاءت لحرمة المسلمين كافة (سنة و شيعة)، لأن شعارها كان إصلاح أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم، التي انحرفت من خلال القيادة الباغية الطاغية المستحلة لحرم الله و الظالمة الغاشمة لعياله…
هذا ليس كلامي و لا رأيي بل من تعابير الإمام الحسين عليه السلام، الذي قال: “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر”(1)
هذه الكلمة لابد أن نستوعبها جيدا، قبل أن نخوض غمار الحديث و الإحياء للثورة الحسينية أو الدعوة للثقافة الحسينية، لأن الثورة الحسينية ، مطلب إسلامي لا يستوعب إلا بالصراحة و الرحابة و الكرامة و العلم …الإسلامية….
إن عاشوراء ذكرى تدعونا أن نفكر في هذه الكلمة أساسا و الكلمات الأخرى الواردة عن الإمام عليه السلام و آله الأطهار عليهم السلام و أصحابه الأخيار رضوان الله عليهم تماما، لأن حركة أبي عبد الله الحسين عليه السلام من المدينة إلى كربلاء و مرورا بمكة، فيها رسم بياني رسالي عظيم تمخضت عليه ثقافة مواجهة التحديات الإستكبارية التي تراهن بكل قواها الشيطانية على مستقبل الإسلام الصافي و الطاهر عبر التاريخ…
إن واقعة الطف، فيها الكثير من عناصر القوة و كذلك الكثير من عناصر الضعف، على حد قول الفرزدق الشاعر عند ما التقى الإمام الحسين عليه السلام و سأله الإمام عن حال الناس في الكوفة فقال له: “قلوب الناس معك، و أسيافهم عليك”(2)
هذه الحال تمثلت في كل أجيال الأئمة عليهم السلام، لأن عامة الناس عبر التاريخ، يحبون الحماس و الانفتاح المجهول المعالم و السطحية، و يستقبلون الولاء و الحب كنبضات قلب انطلقت من نظرة أو من قصة ممتعة أو من جو حماسي أو من مصلحة ذاتية أو من عادة اجتماعية أو من موروث عائلي، أما إذا انطلقت هذه الأمور كلها لتخترق الواقع، تبخر ذلك الحب و الولاء…!
لماذا ذلك في رأيكم؟
لأن كل واحد منا، لا يمتحن نفسه بخصوص وعيه للحسين عليه السلام و لكربلاء القضية و عاشوراء الرسالة…
قد نحب الحسين عليه السلام و أهل البيت عليهم السلام ، لأننا نعيش ذكرياتهم و لكن هل واقعا نعيش أيضا معاناتهم و رسالتهم في الحياة؟
قد نتساءل و كربلاء القضية و عاشوراء الرسالة أسئلتها محرجة و مكدرة للذات…كيف نعيش معاناتهم و ما ذا نقصد بمعاناتهم و رسالتهم في الحياة؟
الجواب: إن التشيع الصحيح و السليم و الأرحب و الإسلامي بتعبير الأدق، هو أن تضحي بالنفس و النفيس، بالمزاج و المصلحة و العصبية و الرجعية و الخوف و التخلف و الذل من اجل الإسلام و من أجل حب الإسلام بصدق، لأننا لا نكون محبين صادقين للإسلام إذا أحببنا كل تلك العناوين التي تفصل بين القول و الفعل، و الله عزوجل يقول:”يا أيها الذين امنوا لم تقولون ما لا تفعلون *كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” ( صورة الصف/2-3).
هذا الجانب السلبي، الذي يواجهه معظم الناس في العلاقة بكربلاء و بالحسين و بالعباس عليهما السلام و في كل علاقاتهم بأئمة أهل البيت عليهم السلام، لابد أن نراجعه و نستقصيه جيدا في واقعنا الإسلامي، حتى لا تكون قلوبنا مع الحسين و العباس و الأئمة الأطهار عليهم السلام و المصلحين في العالم و سيوفنا (حراكنا و واقعنا)عليهم، من الجبن الرسالي وصولا إلى النفاق الولائي و العياذ بالله…و هذه الحقائق عشناها و نعيشها في الزمن الإسلامي المعاصر، حيث مجتمعاتنا لا تعيش المسؤولية في الوقوف مع المصلحين و مع الصالحين و مع النبلاء، لأن الإستضعاف بدلا أن يكون محفزا للتغيير أصبح ذريعة في التقوقع و الذل و الخنوع على جميع الصعد الحياتية…
القضية أحبتي، أصلا، تتعلق بالأمة التي يدفعها القائد للإصلاح و التغيير و العزة ، فتنتفض معه لإنجاح مساعيه الرسالية و مباركتها بالتضحيات و العطاءات و الشهادات …
و هناك الجانب الإيجابي ضمن هذه العلاقة، و الذي يوضح لنا الحب و الولاء العميقين بجلاء، و يجسد كل المعاني الولائية في ثلة من الناس مقارنة بالجانب السلبي الذي أهله هم السواد الأعظم، لكن هذه الثلة تمثل الجودة في احترام القضية الإسلامية و احترام القائد الإسلامي الصالح و احترام الحق و المسؤولية والحرية في الإسلام ….
هذه الجودة اكتسبها و نالها رجال وقفوا مع الإمام الحسين عليه السلام وقفة لا تضاهى، و الآن نطل على شخصية على سبيل القدوة لا على سبيل الحصر، لأن أصحاب الحسين عليه السلام كما تحدث عنهم صلوات ربي و سلامه عليه في الحديث السابق هم سواء في البذل و الجهاد و الثبات و الشهادة، إن هذه الشخصية كانت في الضد كله من الإمام الحسين عليه السلام، حتى أن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام بعث لهذا الرجل أن يلتقيه في الطريق فأبى في البداية، لولا أن الله كان قد من عليه بزوجة واعية صالحة منفتحة على الرمزية الإسلامية مستلهمة للإمامة الإسلامية، دفعته لتغيير موقفه و يلتقي أبي عبد الله الحسين عليه السلام…
إنه “زهير بن القين” ذلك الرجل الذي التحق بالحسين عليه السلام، و في بضع ساعات علمه إمام زمانه ماهو الحق و ماهو الباطل، فكانت النتيجة أن انفتحت روح الرجل على كل فضائل أهل البيت عليهم السلام، ووزنهم في المسيرة الإسلامية، و انتهى به الحال أن أصبح الإمام الحسين عليه السلام أغلى من نفسه…
حيث تنجلي هذه الحقيقة في رد “زهير بن القين” على كلمة الإمام الحسين عليه السلام في ليلة العاشر من المحرم لأصحابه: “…هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي …فإن القوم إنما يطلبوني، و لو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري…”
فرد زهير – هذا الرجل الفذ و الموالي النادر- على الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام قائلا: “و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، و أن الله يدفع بذلك، القتل عن نفسك و عن أنفس هؤولاء الفتية من أهل بيتك” (3)
إنه الحب و الولاء و المسؤولية المعمقة و المتجذرة بصدق و حق في نفوس أصحاب الإمام الحسين عليه السلام و المنطلقة من المعرفة الإسلامية و الإيمان و الإسلام و الإحسان، إن زهير بن القين نموذج من نماذج كربلاء و تلميذ من تلامذة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، نال درجة الدكتوراه العليا في الشهادة و الصدق و الوفاء و الإخلاص لإمام زمانه و لأهل البيت عليهم الصلاة و السلام بجامعة كربلاء الرسالية فاستحق وسام التشيع الذي صعب تحصيله…! ؟
بهذه الصورة المشرقة من نفحات الولاية الكربلائية، نفهم كيف كان تشيع أصحاب الحسين عليه السلام للحسين عليه السلام…
واجبنا نحن، من نتشيع للحسين عليه السلام ؟ أن نلاحظ كيف كان سلوك أصحابه معه عليه السلام ؟ و ندقق في تفاصيل تقواهم و ورعهم لأنه لا تنال ولاية الأئمة عليهم السلام إلا بالتقوى و الورع كصنوان لمستقبل الشهادة من اجل الإسلام…
فصدورنا تزداد ضيقا و عقولنا تخمرها المصالح و الطائفية و العصبية و التخلف و الحزبية و كل الأمراض التي تعتل بها الروح و تتعفن بها القلوب و تتجمد بها الحركة في زوايا ضيقة من الواقع الإسلامي …
بعد هذا، أيها الأحبة، إن هذه الليالي العاشورائية الإسلامية، من شعائر الله التي شرط الباري عز وجل تعظيمها لبلوغ مرتبة تقوى القلوب، و تعظيمها عنوان بحاجة ماسة، لعقل واسع و صدر رحيب يسع النهضة الحسينية، ثقافة و ثورة…
الهوامش:
(1) البحار ج45 ص 7 باب 37
(2) الإرشاد ج2 ص 67 – تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام
(3) تاريخ الطبري ج3 ص 315-316