صحبت الإمام الحسين (عليه السلام) في البداية جموع كثيرة من الناس، كان لا يزال فيهم من يظن أن في خطبة الحسين (عليه السّلام) بعض المبالغة بشأن مصيره عليه السلام ومصير أصحابه، وإن هناك أملاً في النجاة، كما التحقت به (عليه السّلام) في الطريق جموع أخرى، أما الإمام (عليه السّلام) الذي اشترط على من يصحبه أن يكون: «باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه»، فإنه لم يرد أن يكون في صحبه بعض الضعاف غير المستعدين سبيل الله، لذلك كان يخطب بالناس في مواقع متعددة من الطريق مؤكداً لهم المصير الذي سيلقاه وصحبه مستهدفاً من ذلك غربلتهم وإخراج غير الأكفاء لتلك المهمة الصعبة، ولكي لا يبقى معه إلا الذي امتحن الله قلبه للإيمان فكان مخلصاً متفانياً لله ذائباً في إرادته تعالى.
وفي النهاية لم يبق معه (عليه السّلام) إلا الأنصار المخلصون الذين شهد لهم عليه السلام نفسه بالبر والوفاء فقال: «لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي» وهذه الشهادة تعني أن الإمام (عليه السّلام) يخاطب أصحابه بأن لو خيرت بينكم وبين أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر لاخترتكم عليهم، ولو خيرت بينكم وبين أصحاب علي (عليه السّلام) في صفين لاخترتكم عليهم، فأنتم سادة الشهداء وتاج رؤوس جميع الشهداء.
وفي ليلة العاشر من المحرم أذن الإمام الحسين (عليه السّلام) لأصحابه أن ينصرفوا عنه ويتخذوا الليل جنة، وخاطبهم قائلاً: «ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غداً وإني أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حِل ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم«.
وكان هذا آخر اختبار امتحن به الإمام (عليه السّلام) صدق أصحابه وإخلاصهم، فهو قد أحلهم من بيعته، أي أسقط عنهم التكليف الشرعي بوجوب نصرته، وطمأنهم من العدو الذي لو أصابه هو (عليه السّلام) وهو ما يريده العدو لذهل عن أصحابه؛ فماذا كان جواب أولئك الأنصار؟! لقد رفضوا جميعاً ترك الحسين وأعلنوا إصرارهم جميعاً على الموت دونه وكان أول من أعلن الموقف الوفي والشجاع أخو أبو الفضل العباس الذي قال: «لا أرانا الله ذلك أبداً» فما أعظم السرور الذي أدخله على قلب الحسين (عليه السّلام) جواب أخيه وباقي الأنصار! إذ رآهم يشاركونه الهدف والتفكير والعقيدة والعزم، وعندما رأى الحسين (عليه السّلام) هذا الموقف الصلب من أصحابه شرع في تبيان ما سيجري عليهم غداً فقال عليه السلام: «إني غداً أقتل وكلكم تقتلون معي ولن يبقى منكم أحد حتى القاسم وعبد الله الرضيع«.
أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) منح أصحابه يوم العاشر من المحرم وساماً وفخراً وشهادة وبقي ذكرهما خالداً على مر التاريخ، ففي تلك اللحظات الأخيرة من واقعة الطف ومن حياته عليه السلام وبعد أن استشهد جميع أنصاره وأهل بيته ولم يبق من رجل إلا زين العابدين وهو عليل يكابد آلام المرض، في تلك اللحظات والإمام الحسين (عليه السّلام) وحيد بين كثرة الأعداء، واقف يدير البصر هنا وهناك فلا يرى من ناصر ولا معين، لا يرى إلا الأجساد المتناثرة هنا وهناك على الثرى، في تلك اللحظات قال الإمام (عليه السّلام) جملة مفادها هو: إني لا أرى على هذه الأرض حياً سوى تلك الأجساد المقطعة إرباً إرباً. مشيراً إلى أجساد أصحابه!! هؤلاء الذين تتناثر أجسادهم على الثرى يراهم سبط النبي هم وهم فقط الأحياء الذين يمكن أن يستنصرهم ويستصرخهم ويطلب العون منهم والغوث، فمن هؤلاء الذين يعتبرهم الحسين (عليه السّلام) لوحدهم الأحياء دون غيرهم؟!
هؤلاء هم أنصاره الذين كانت أوصالهم تتناثر على صعيد كربلاء، ورغم ذلك يراهم الحسين (عليه السّلام) أحياء فيستصرخهم ويقول: «يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء قوموا عن نومتكم بني الكرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام«.
أبو عبد الله المظلوم الغريب يستنهض تلك الأجساد ويدعوها للقيام والذب عن حرم الرسول فقد هجم عليها أهل الغدر واللؤم والكفر… ثم يجيب الإمام عليه السلام نيابة عنهم معتذراً لهم، فأنى لهم الجواب، وقد فصل بين رؤوسهم وأجسادهم.
“الهجرة والجهاد” للشهيد مطهري – بتصرّف