في السیرة الإمام الحسن المجتبى /
تمهيد:
إن المقام المقدس الذي حظي به الإمام الحسن ( عليه السلام ) على لسان جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، يدفعنا لمزيد من التأمل في سيرته المباركة، بكل ما تحتويه من جوانب عظمة وكمال ذاتية وحكمة وسداد رسالي ، والذي نراه ينجسم تماماً مع وصف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) له وموضعه منه فيما ورد عنه ( صلى الله عليه وآله ) في حقه ( عليه السلام ) منها:
عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال: “لما ولدت فاطمة الحسن ( عليه السلام ) قالت لعلي ( عليه السلام ): سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهاكم أن تلفّوه في خرقة صفراء؟! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي ( عليه السلام ): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه، فقال ( صلى الله عليه وآله ): وما كنت لأسبق باسمه ربي عزّ وجل.
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقرئه السلام وهنّئه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) فهنأه من الله عزّ وجلّ ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسمّاه الحسن”.(۱)
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما”.(۲)
وعن زينب بنت أبي رافع عن أمّها قالت: قالت فاطمة (س): يا رسول الله هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): “أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي”.(۳)
وعن البرّاء بن عازب قال: “رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واضعاً الحسن على عاتقه فقال: من أحبّني فليحبّه”.(۴)
وقوله ( صلى الله عليه وآله ): “اللهم إني أحبّه فأحبه وأحبّ من يحبه قال: وضمّه إلى صدره”.(۵)
واجتمع أهل القبلة على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال: “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا”.(۶)
ولو سبرنا حياة الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) لوجدنا ذات الخط الذي نهجه أبوه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأمه فاطمة الزهراء ( عليه السلام )، يتجسد مرة أخرى في سيرته الرسالية، حيث لم ير مصلحة فوق مصلحة الإسلام العليا، ولا قيمة لشيء أكبر من قيمتها، بل لقد أرخص سلام الله عليه كل شيء في سبيله، لأنها سبيل الله وكلمته العليا.
ولنأخذ من مواقفه الكبرى في هذا السبيل بعض النماذج المتميزة في عهود أساسية ثلاث من سيرته المباركة:
۱ – في عهد عثمان:
ونستلّ من سيرة الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام )، في هذا العهد مجالين هما:
أ – مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الإسلام، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رعاية مصلحة الإسلام العليا التي كررها في أكثر من موضع: “والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جورٌ إلاّ عليّ خاصّة”.(۷)
وقد نقلت لنا كتب التاريخ ومروياته هذه الحقيقة، وممّا جاء فيها: إن الإمام أبا محمد الحسن ( عليه السلام ) كان قد بلغ العشرين عاماً أو تزيد، وقد برز بين أعيان المسلمين في مواهبه العالية وتطلعاته إلى حقائق الأمور ومشكلاتها، ومضى مع أبيه يتجرع مرارة تلك الأحداث القاسية، ويترقب معه الوقائع والأحداث، ويعملان لصالح الإسلام. وانضمّ الحسن إلى جنود المسلمين الذين اتّجهوا إلى أفريقيا بقيادة عبد الله بن نافع وأخيه عقبة في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد، كما جاء في العبر لابن خلدون، وتطلع المسلمون إلى النصر والفتح متفائلين بوجود حفيد الرسول وحبيبه يجاهد معهم، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما يصفها المؤرخون، وعاد الحسن منها إلى مدينة جده وقلبه مفعم بالسرور، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم لانتشار الإسلام في تلك البقعة من الأرض.
كما جاء في تاريخ الأمم والملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة أن سعيد بن العاص غزا خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله والحسن والحسين إلى جرجان، فصالحوه على حد تعبير الطبري على ساحل البحر، فقاتلهم أهلها قتالاً شديداً وصلّى المسلمون صلاة الخوف، وأخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصّ على ذلك ابن خلدون وغيره من المؤرخين.
وجاء في الفتوحات الإسلامية وغيرها أن سعيد بن العاص غزا طبرستان سنة ثلاثين من الهجرة، وكان الأجهيد قد صالح سويد بن مقرن على مال بذله في عهد عمر بن الخطاب، وفي عهد عثمان بعد استيلائه على السلطة بخمس سنوات تقريباً، جهز إليهم جيشاً بقيادة سعيد بن العاص، كان فيه الحسن والحسين وعبد الله بن العباس وغيرهم من أعيان المهاجرين والأنصار، وتم لهم الاستيلاء على تلك المناطق والتغلب عليها.
وتؤكد أكثر المرويات أن الحسن والحسين قد اشتركا في كثير من الفتوحات الإسلامية، وكان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين وغيرهم.(۸)
ب – كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام )، معبّراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء، خصوصاً بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعمّاله. وتنقل لنا كتب التاريخ وقائع تلك الفترة، ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله، وخوفهم على دينهم ودنياهم، زحفوا إليه من جميع الأقطار، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعمّاله، أو بالتخلي عن السلطة،
وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولده الحسن وسيطين بين الخليفة ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح، ووضع حدّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة، وكانا كلما أشرفا على النجاح، ووضعا الحلول الكفيلة بالإصلاح وإرجاع الثوار إلى بلادهم، جاء مروان ونقض كل ما أُبرم بين الطرفين من حلول واتفاقات، حتى تعقّدت الأمور أخيراً وهاجمه الثوار بتحريض من عائشة وطلحة والزبير، وقالت لهم عائشة كما تؤكد ذلك أكثر المرويات: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
وأخرجت للمسلمين قميص رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقالت بصوت سمعه الجميع: هذا قميص رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته. كما تؤكد المصادر الموثوقة أن طلحة لم يقتصر دوره على التحريض على عثمان، بل اشترك معهم وسهّل لهم الوصول إلى داره للقضاء عليه، في حين أن أمير المؤمنين – كما يدعي الرواة – قد أرسل ولديه حسناً وحسيناً ليدفعا عنه الثوار.
وجاء في رواية ابن كثير أن الحسن بن علي قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه. ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين ( عليه السلام )، كانوا كغيرهم من خيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وأنصاره وعماله، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتريض عليه، بل وقف منه موقفاً سليماً وشريفاً، أراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتفق مع منهج الإسلام، وأن يجعل حدّاً لتصرفات ذويه وعماله الذين أسرفوا في تبذير الأموال واستعمال المنكرات،
وأراد من الثائرين عليه أن يقفوا عند حدود المطالبة بالإصلاح الشامل لجميع مرافق الدولة، وألاّ تتّخذ ثورتهم طابع العدوان والانتقام، واستطاع في المراحل الأولى من وساطته أن يضع حدّاً للصراع القائم بين الطرفين بما يحفظ لكل منهما حقّه، لولا أن مروان بن الحكم قد أفسد كل ما أصلحه الإمام ( عليه السلام ) وظلّ الإمام إلى آخر لحظة يتمنى على عثمان أن يتخذ موقفاً سليماً حتى يُتاح له أن يعالج الموقف في حدود ما أنزل الله.(۹)
۲ – في عهد خلافة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ):
وفي هذا العهد كان الإمام الحسن السبط ( عليه السلام ) ظلاًّ لأبيه في كل ما تتطلبه مسألة الولاء لإمامه خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، وجندياً واعياً مطيعاً لكل أوامره. وقد تجلّى دوره هذا على طول الأيام الحاسمة، والصراع المرير الذي عاشه والده أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
ومن مهماته المشهودة في تلك الفترة:
أ – دوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل:
وهي الحرب التي استعرت في إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) بقيادة عائشة. وقد تمثل دور الإمام الحسن ( عليه السلام ) فيها بأمرين أساسيين:
أولاً: لما توجّه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى ذي قار ونزلها، أرسل الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) إلى الكوفة مع عمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد، ليستنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير، وكان قد أرسل قبلهم وفداً فعارضهم أبو موسى ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ومضى الحسن بمن معه باتّجاه الكوفة، ولمّا دخلوها استقبلهم أهلها فقرأ عليهم كتاب أبيه ( عليه السلام )، ووقف أبو موسى نفس الموقف الذي وقفه مع الوفد الأول، وافتعل حديثاً عن النبي ليثّبط الناس عن مساعدة أمير المؤمنين، وادّعى أنه سمعه يقول: ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم، والنائم خير من القاعد. فردّ عليه عمار بن ياسر وقال: إذا صح أنك سمعت رسول الله يقول ذلك فقد عناك وحدك، فالزم بيتك. أمّا فأُشهد الله أن رسول الله قد أمر عليّاً بقتال الناكثين وسمّى لي منهم جماعة، وأمره بقتال القاسطين، وإن شئت لأقيمنّ لك شهوداً أن رسول الله قد نهاك وحدك وحذّرك من الدخول في الفتنة.
ووقف الحسن ( عليه السلام ) يستنفر الناس فحمد الله وصلّى على رسوله ثم قال: “أيها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلى الله وكتابه وسنّة رسوله، وإلى أفقه من تفقّه من المسلمين وأعدل من تعدلون وأفضل من تفضلون وأوفى من تبايعون، من لم يعبه القرآن ولم تجهله السنّة ولم تقعد به السابقة. ندعوكم إلى من قرّبه الله ورسوله قرابتين; قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلّى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدّقه وهم يكذبون، وهو سائلكم النصر ويدعوكم إلى الحق ويأمركم بالمسير إليه لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا ببيعة، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثّلوا بعمّاله، ونهبوا بيت ماله. فأشخصوا إليه رحمكم الله”.
وفي رواية ثانية عن جابر بن يزيد أنه قال: حدثني تميم بن جذيم التاجي أن الحسن بن علي ( عليه السلام ) وعمار بن ياسر قدما الكوفة يستنفران الناس إلى علي ( عليه السلام ) ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءته قام الحسن فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون: اللّهم سدّد منطق ابن بنت نبيّك، فوضع يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال: “الحمد لله العزيز الجبار الواحد الأحد القهار الكبير المتعال، سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وساربٌ بالنهار، أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، امتنّ بنبوته واختصه برسالته وأنزل عليه وحيه واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس والجنّ حين عُبدت الأوثان وأُطيع الشيطان وجُحد الرحمن، فصلّى الله عليه وعلى آله وجزاه أفضل الجزاء،
أما بعد فإني لا أقول لكم إلاّ ما تعرفون; إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره وأعزّ نصره بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب والعمل بالكتاب والجهاد في سبيل الله، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في آجله ما تحبّون إن شاء الله، ولقد علمتم بأنّ عليّاً صلّى مع رسول الله وحده، وأنه يوم صدّق به لفي عاشرة من عمره، ثم شهد مع رسول الله جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسول وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول الله راضياً عنه حتى غمّضه بيده وغسّله وحده والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمّه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من أموره، كل ذلك من منّ الله عليه، ثم – والله – ما دعا إلى نفسه، ولقد تداكّ الناس عليه تداكّ الإبل الهيم عند وردها فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه ولا خلاف أتاه حسداً له وبغياً عليه، فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته والجدّ والصبر والاستعانة بالله، والإسراع إلى ما دعاكم إليه، عصمنا الله وإيّاكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإيّاكم تقواه وأعاننا وإيّاكم على جهاد اعدائه. واستغفر الله لي ولكم”.
وبعد جدال طويل وحوار بين عمّار بن ياسر والحسن بن علي ( عليه السلام ) من جهة، وبين أبي موسى الأشعري التفت الحسن ( عليه السلام ) إلى أبي موسى وقال له: “اعتزل عملنا لا أمّ لك وتنحَّ عن منبرنا”. وظلّ أبو موسى على موقفه المتصلّب يخذّل الناس ويوحي إليهم بأن رسول الله قد أمرهم باعتزال هذه الفتنة، حتى جاء مالك الأشتر ودخل القصر وأخرج منه الحرس، هذا وأبو موسى في جدال مع الحسن ( عليه السلام ) وعمّار، فجاءه الغلمان والحرس يشتدون إليه وأخبروه بما صنع الأشتر، فخرج من المسجد مذموماً مدحوراً، واستجاب الناس لنداء الحسن ( عليه السلام )، وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمير المؤمنين قد أخبر بعددهم وهو في ذي قار كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطفيل، وأضاف إلى ذلك أبو الطفيل يقول: والله لقد قعدت على الطريق وأحصيتهم واحداً واحداً فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً.(۱۰)
ثانياً: شارك الإمام الحسن ( عليه السلام ) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وحمل رايته وانتصر بها على الناكثين. ومما أجمع عليه المؤرخون في ذلك أنه لمّا زحف أمير المؤمنين في كتيبته الخضراء التي جمعت المهاجرين والأنصار، وحوله أولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وكان قد أعطاه الراية، فحمل بها على أنصار عائشة ومضى يتقدم بها حتى تزعزعت صفوفهم، فقال له الأنصار: والله يا أمير المؤمنين لولا ما جعل الله تعالى للحسن والحسين لما قدّمنا على محمد أحداً من العرب، فقال لهم أمير المؤمنين: “اين النجم من الشمس والقمر؟ أما إنه قد أغنى وأبلى وله فضله، ولا ينقص فضل صاحبيه عليه، وحسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى عليه”. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، إنّا والله لا نجعله كالحسن والحسين، ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه حقّه. فقال: “اين يقع ابني من ابني بنت رسول الله؟”.(۱۱)
ب – دوره في حرب القاسطين المعروفة بحرب صفين:
وهي حرب البغاة في الشام التي التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وهكذا أيضاً كان دور الإمام الحسن ( عليه السلام ) فيها كدوره في حرب الجمل، بل زاد عليه; حيث قام بتعبئة المسلمين للجهاد وبذل جهده لإحباط مؤامرة التحكيم والاحتجاج على المنادين به. ونلخص هذا الدور بما يلي:
أولاً: وقف الإمام الحسن ( عليه السلام ) خطيباً يعبّئ المسلمين لجهاد القاسطين البغاة بقيادة معاوية بن أبي سفيان فقال: “الحمد لله لا إله غيره ولا شريك له، وإنه ممّا عظّم الله عليكم من حقّه وأسبغ عليكم من نعمه مالا يحصى ذكره ولا يؤدّى شكره ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنّما غضبنا لله ولكم، وإنه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلاّ اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية وجنوده، ولا تتخاذلوا، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الإقدام على الأسنّة نخوة وعصمة. لم يتمنّع قوم قطّ إلاّ رفع الله عنهم العلّة، وكفاهم حوائج الذلّة. وهداهم إلى معالم الملّة” ثم أنشد:
والصلح تأخذ منه ما رضيت به —- والحرب يلفيك من أنفاسها جرع (۱۲)
ثانياً: لقد عبّر الإمام الحسن ( عليه السلام ) عن ولائه المطلق لأبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في محنته هذه، مستخفّاً بإغراء البغاة له بالخلافة دون أبيه. فقد روي أن عبيد الله بن عمر أرسل إلى الحسن بن علي أن لي حاجة، وكان إلى جانب معاوية بن أبي سفيان، فلقيه الإمام أبو محمد الحسن، فقال له عبيد الله: إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنئه الناس، فهل لك في خلعه وتتولّى أنت هذا الأمر؟ فقال له الحسن ( عليه السلام ): “كلاّ، والله لا يكون ذلك أبداً”. ومضى يقول: “يابن الخطّاب، والله لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك. أما إن الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك متخلّقاً بالخلوق; ترى نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً”.
ثم انصرف كل منهما إلى جهته. ونقل أحد الرواة قال: فو الله ما كان إلاّ بياض ذلك اليوم، حتى قتل عبيد الله وهو في كتيبة رقطاء تدعى الخضرية، وكان في أربعة آلاف عليهم ثياب خضر، فمرّ الحسن بن علي ( عليه السلام )، وإذا برجل متوسّد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه وربط فرسه برجله، فقال الحسن لمن معه: “أنظروا من هذا؟” فإذا رجل من همدان، وإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قد قتله الهمداني في أول الليل وبات عليه حتى أصبح.(۱۳)
ثالثاً: كان للامام الحسن ( عليه السلام ) دور مشهود في الاحتجاج على من نادى بالتحكيم وقبل به، كاشفاً عن حقيقة الموقف وما يكمن وراءه من مؤامرة شيطانية لتفريق جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وتمزيقه داخليّاً. وممّا روي في ذلك أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد أن أعيته السبل في التحذير من التحكيم وأنه خدعة ومؤامرة، استسلم مكرهاً لرغبة القوم، فكانت مهزلة التحكيم التي انتهت بخذلان أبي موسى الأشعري للامام علي ( عليه السلام )، فساد الاضطراب معسكر أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وبدت ظواهر التمزق والتفرق تسود أوساط جيشه، وأخذ كلّ فريق يتبرّأ من الآخر ويشتمه، فلم يجد الإمام علي ( عليه السلام ) سبيلاً لدرء هذه المفسدة وبيان الحقّ وكشف حقيقة التحكيم وبطلانه، إلاّ أن يقدّم الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) ليقوم بهذه المهمة الرسالية قائلاً له:
“قم يا بني فقل في هذين الرجلين عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص”، فقام الإمام السبط خطيباً فقال: “أيّها الناس، قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنّما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب، ومن كان هكذا لم يسمَّ حَكماً ولكنه محكوم عليه، وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم يرضه لها، ولا جعله في أهل الشورى، وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه، وثالثة: أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس، وأمّا الحكومة فقد حكّم النبي ( صلى الله عليه وآله ) سعد بن معاذ، فحكم بما يرضى الله به. ولا شكّ لو خالف لم يرضه رسول الله ( صلى الله عليه وآله )”.(۱۴)
وبذلك أظهر الإمام السبط حقيقة الموقف، وكشف عن زيف التحكيم، وخطّل رأي أبي موسى الأشعري الذي انتخبته الغوغاء من جيش الإمام علي ( عليه السلام ) ومكّنته من الموقف دون رويّة وتدبّر، رغم أنه معروف بسوء سريرته.
وهكذا كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) سنداً وظهيراً لأبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى آخر لحظة من حياته، وكان يعاني ما يعانيه أبوه من أهل العراق ويتألّم لآلامه ومحنه، وهو يرى معاوية يحوك المؤامرة تلو الأخرى، ويبثّ مرتزقته في أنحاء العراق لتثبيط المسلمين عن أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ويغري القادة والزعماء بالأموال والمناصب حتى فرّق أكثرهم عنه، وأصبح أمير المؤمنين يتمنى فراقهم بالشهادة في سبيل الله، ولطالما بكى وقبض على كريمته وهو يقول: “متى يُبعث أشقاها فيخضّب هذه من هذا”؟!، والحسن ( عليه السلام ) يرى كل ذلك وتأخذه الحسرة والألم لما يحيط بأبيه من المتاعب والمحن والفتن.
۳ – في أيام خلافته ( عليه السلام ):
لقد أجمع المؤرخون أن خلافته كانت في صبيحة اليوم الذي دُفن فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وبعد الفراغ من إنزال حكم الله بقتل ابن ملجم، فقد ضربه ضربة واحدة قضت عليه كما أوصاه أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ثم تجمّع عند الإمام الحسن ( عليه السلام ) صبيحة ذلك اليوم حشد كبير من أهل الكوفة غصّ بهم الجامع على سعته، فوقف خطيباً حيث كان يقف أمير المؤمنين وحوله من بقي من وجوه المهاجرون والأنصار، فابتدأ خطابه في مصابه بأبيه الذي أصيب به جميع المسلمين،
وقال بعد أن حمد الله وصلّى على محمد وآله: “لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل. لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وأينما وجّهه رسول الله كان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفّي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء، وقُبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف خضراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع فيها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال”.
ثم تمثل له أبوه وما كابده في حياته من الآلام والمتاعب فاستعبر باكياً، وبكى الناس من حوله حتى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب من جميع أنحاء الكوفة، وعاد إلى حديثه بعد أن استنصت الناس، وقال: “أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي والوصي، وأنا ابن البشير النذير والداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وافترض مودّتهم على كل مسلم فقال في كتابه: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً)، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت”.(۱۵)
وبعد خطابه هذا أقبل الناس يتسابقون إلى بيعته، وتمّت بيعته في الكوفة والبصرة، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه. ولمّا بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمع بكبار أعوانه، وشرعوا بحبك المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الإمام الحسن ( عليه السلام ) وتقويض خلافته. وعندما نستقرئ سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن الطخياء، تتجسد أمامنا قمة الفناء في الله سبحانه، واتّخاذ مصلحة الإسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته، مضحّياً بكل شيء دون ذلك.
ويمكننا الإشارة إلى ثلاث حالات مثّلت كبريات مواقفه الرسالية المشهودة في هذا السبيل:
أ – إن الإمام الحسن ( عليه السلام ) رأى ابتداءً أن مصلحة الإسلام العليا تقوم بالتعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان، وقد اتّخذ الإمام ( عليه السلام ) قراره هذا بعد مراسلات متبادلة بينه وبين معاوية أتمّ فيها الحجّة عليه، وردّ عليه محاولاته لإغرائه ( عليه السلام ) بالأموال والخلافة من بعده قائلاً له: ولك ألاّ تُقضى دونك الأمور، ولا تُعصى في أمر من الأمور أردت بها طاعة الله…. وكان آخر ما كتبه الإمام ( عليه السلام ) رادّاً عليه: “أمّا بعد فقد وصلني كتابك تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك خشية البغي عليك وبالله أعوذ من ذلك، فاتّبع الحق تعلم أني من أهله وعليّ إثم أن أقول فاُكذب. والسلام”.
ولمّا وصله كتاب الحسن ( عليه السلام ) أدرك أن أساليبه ومغرياته لم تغيّر من موقفه شيئاً، فكتب إلى جميع عمّاله في بلاد الشام: أمّا بعد، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، والحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم وقتلة خليفتكم، إن الله بلطفه وحسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله وقتله، وترك أصحابه متفرّقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم، فقد أصبتم – بحمد الله – الثار وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان. والسلام عليكم ورحمة الله.
فاجتمعت إليه الوفود من كل الجهات وسار بهم باتّجاه العراق. ويدّعي المؤرخون أنه لمّا بلغ الحسن بن علي خبر مسيره وأنه قد بلغ جسر منبج تحرّك عند ذلك، وكتب إلى عمّاله يدعوهم إلى التحرك، ونادى مناديه في الكوفة يدعوهم إلى الاجتماع في المسجد، فأقبل الناس حتى امتلأ بهم، فخرج الإمام وصعد المنبر، فأثنى على الله وصلّى على رسوله، ثم قال: “لقد كتب الله الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، وأوصى المجاهدين بالصبر ووعدهم النصر وجزيل الأجر”. ثم قال: “أيها الناس، إنكم لستم نائلين ما تحبّونه إلاّ بالصبر على ما تكرهون، وقد بلغني أن معاوية كان قد بلغه أنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرك نحونا بجنده، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون”.
فسكت الناس ولم يتكلم أحد منهم بحرف واحد، فلمّا رأى ذلك منهم عدي بن حاتم قام وقال: أنا ابن حاتم. سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟، أين خطباء مضر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة؟ فإذا جدّ الجد فمراوغون كالثعالب. أما تخافون مقت الله وعيبها وعارها؟ ثم استقبل الإمام الحسن بوجهه وقال: أصاب الله بك المراشد وجنّبك المكاره، ووفّقك لما تحمد وروده وصدوره. قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحبّ أن يوافيني فليواف، ثم مضى لوجهه وخرج من المسجد فركب دابته، وكانت على باب الجامع، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، ومضى هو إلى النخيلة.
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنّبوا الناس ولاموهم على تخاذلهم وحرّضوهم على الخروج، وكلّموا الحسن ( عليه السلام ) بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم: “صدقتم رحمكم الله. مازلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودّة والنصحية، فجزاكم الله خيراً”.
وخرج الناس إلى النخيلة، فلما تكامل عددهم لحق بهم الحسن، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن عبد المطلب، وأمره بأن يحرّك الناس ويحثّهم على الخروج والالتحاق بالجيش.
ويروي المؤرخون أنه لمّا تكامل الجيش خرج به الحسن ( عليه السلام )، وقد حدّده بعضهم بأربعين ألفاً، وبعضهم بستّين وبأكثر من ذلك، ولمّا نزل دير عبد الرحمن أقام به ثلاثة أيام، ودعا عبيد الله بن العباس وقال له: “يابن العم، إني باعث معك اثني عشر ألفاً، من فرسان العرب وقرّاء مضر، الرجل منهم يريد الكتيبة، فسر بهم على الشاطئ حتى تقطع الفرات وتنتهي إلى مسكن، وامض منها حتى تستقبل معاوية، فألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك، فإنهم من ثقات أمير المؤمنين، فإن أنت لقيت معاوية فاحبسه حتى آتيك، فإني على إثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كل يوم”.
وأرسل معه قائدين من خيرة المسلمين إخلاصاً وجهاداً ونصيحة في سبيل الله، وهما قيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس الهمداني، وأمره ألاّ يقطع أمراً دونهما، وأن يستشيرهما في جميع الأمور، وقال له: “إذا أنت لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يكون هو البادئ في القتال، فإن أُصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أصيب فالقيادة من بعده لسعيد بن قيس”.
وسار عبيد الله بالناس يقطع الصحاري حتى انتهى إلى الفلّوجة، ومنها إلى مسكن، وكان معاوية قد نزل فيها، فنزل عبيد الله بن العباس بإزائه، وفي اليوم الثاني وجّه معاوية بخيل أغارت على جيش عبيد الله فوقفوا لها وردّوها على أعقابها، وأيقين معاوية تصميم الحسن ( عليه السلام ) على مواصلة القتال بعد أن رفض العروض المغرية التي قدمها إليه في رسائله.(۱۶)
ب – رأى الإمام ( عليه السلام ) أن مدار مصلحة الإسلام العليا بعد خذلان جيشه له وتفرقه عنه، يقوم بعقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان; وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمّا أرسل خيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد الله، ردّها أهل العراق على أعقابها، وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد الله جاء فيها أن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلم الأمر لي فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً خير لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك إن اجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجّل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة أدفع لك النصف الثاني.
ويدعي أكثر المؤرخين أن عبيد الله انسلّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفّى له بما وعده، وانتبه الناس بدخول النهار، فانتظروا عبيد الله ليصلي بهم فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد، ولمّا تأكدوا من خبره خطبهم قيس، وذكر عبيد الله فنال منه، وأمرهم بالصبر والثبات، وعرض عليهم الحرب ومناهضة معاوية مهما كان الحال، فأجابوه لذلك، فنزل عن المنبر ومضى بهم لقتال معاوية، فقابلهم جيشه بقيادة بسر بن أرطاة، وبثّ دعاته بين أصحاب قيس يذيعون أن أميرهم عبيد الله مع معاوية في خبائه، والحسن بن علي قد وافق على الصلح فعلام تقتلون أنفسكم. وهنا يدّعي المؤرخون أن قيساً قال لأهل العراق: اختاروا إحدى اثنتين: إما القتال بدون إمام، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل بدون إمام، ثم اتّجهوا نحوهم واشتبك الفريقان في معركة ضارية كانت نتائجها لصالحهم، وتراجع بسر بمن معه إلى معسكراتهم مخذولين مقهورين.
وكان موقف عبيد الله من جملة العوامل التي تسببت في تفكك جيش الإمام وتخاذله، وفتح أبواب الغدر والخيانة والتسلّل الجماعي، وتذرع ذوي النفوس الضعيفة والقلوب المريضة أن عبيد الله ابن عمه واولاهم بمناصرته والتضحية في سبيله.
كما كان لغدر عبيد الله بن العباس في نفس الإمام ( عليه السلام ) حزن بالغ وأسىً مرير; لأنه فتح الباب لغيره، وتستّر بغدره وخيانته جميع الطامعين والخونة من أهل العراق، ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاّ واستعملوها، واستمالوا إليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حصناً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في صفين وغيرها من المواقف; فلقد راسله خالد بن معمّر أحد زعمائها البارزين وبايعه عن ربيعة كلّها.
كما راسله وبايعه عثمان بن شرحبيل أحد زعماء بني تميم، وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الإمام أبو محمد الحسن ( عليه السلام ) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يعد يجوز السكوت عنه، فقال: “يا أهل الكوفة، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثم اختلفتم عليه، وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغرّوني في ديني ونفسي”.
وهنا اطمأن معاوية بأن المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه، وسيكون الحسن بن علي ( عليه السلام ) والمخلصون له من جنده خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته، وأن السلطة صائرة إليه لا محالة، ولكن استيلاءه عليها بقوة السلاح لا يعطيها الصبغة الشريعة التي كان يحاول التمويه بها على الناس، هذا بالإضافة إلى ما قد يحدث من المضاعفات الخطرة التي ستجعله في ضيق من نتائجها، وذلك لو أُصيب الحسن والحسين خلال المعارك وهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا جدهما وأحبّ الخلق إليه بالنصوص المتواترة التي لا يجهلها أحد من المسلمين.
لذلك ولغيره كان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الحسن بن علي ( عليه السلام ) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد، وراح يردد حديث الصلح في مجالسه وبين أنصاره في جيش العراق ويأمرهم بإشاعته، وكاتب القادة والرؤساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب، ويبثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع.
وكانت فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ينخذع له الكثيرون من الناس، ويفضلونه على الحرب والقتال; فلقد عرضها في رسالته الأولى على الحسن ( عليه السلام ) وأشاعها بين أهل العراق، على ألا يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريد به طاعة الله ورسوله، وترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد; كل ذلك لعلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطره إلى الصلح لأنه أهون الشرّين، كما التجأ والده من قبل للتحكيم والرضا بالأشعري حكماً لأهل العراق في مقابل ابن العاص، لأنه أقل خطراً وضرراً من المضي في الحرب، مع انحياز القسم الأكبر من الجيش إلى جانب فكرة التحكيم التي وضعها معاوية، بعد أن ضاق عليه أمره وكاد أن يقع أسيراً بيد الأشتر ومن معه من الجنود البواسل.
وبالاضافة إلى أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحاً بيد الخونة من أهل العراق، ستكون أيضاً عذراً مقبولاً لمعاوية لو كانت الحرب وأُصيب الحسنان وخيار الصحابة عند السواد الأعظم من الناس.
وكان الأمر كما قدر معاوية; فقد أدّت فكرة الصلح بتلك الصيغة إلى التشويش والاضطراب في صفوف الجيش، وإلى تسلّل عبيد الله بن العباس وعدد من القادة وزعماء العشائر إلى معاوية واتّصال بعضهم به عن طريق المراسلة، وكان هو بدوره بما لديه من وسائل الإعلام يرسل إلى الحسن بجميع أخبارهم وتصرفاتهم ليقطع أمله من نتائج الحرب، ولا يبقى له خيار في الصلح، وكان الأمر كذلك.
وقال الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في إعلام الورى: إن أهل العراق كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه إذا شاء عند دنوّه من معسكرهم أو الفتك به.(۱۷)
وجاء في علل الشرائع أن معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجّار بن أبجر وشبث بن ربعي ووعد من يقتل الحسن بمئة ألف وقيادة جند من أجناد الشام وبنت من بناته، ولمّا بلغ الحسن ( عليه السلام ) ذلك كان لا يخرج بدون لامة حربه، ولا ينزعها حتى في الصلاة، وقد رماه أحدهم بسهم وهو يصلي فلم يثبت فيه.
ولا شك أن معاوية أراد من اغتيال الإمام الحسن ( عليه السلام ) على يد العراقيّين أن يسلم له الأمر، ويخلو له الجو بدون قتال إذا تعذّر الصلح، حتى لا يتحمل مسؤولية قتله وقتل آله وأنصاره تجاه الرأي العام الإسلامي، الذي لا يغفر له عملاً من هذا القبيل مهما كانت الظروف.
ولم يكن الإمام أبو محمد الحسن ( عليه السلام ) يفكر بصلح معاوية، ولا بمهادنته، غير أنه بعد أن تكدّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز أكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم ويمتحن عزيمتهم، فوقف بمن كان معه في ساباط، ولوّح لهم من بعيد بالصلح وجمع الكلمة فقال: “فو الله إني لأرجو أن أكون أنصح خلق الله لخلقه. وما أصبحت محتملاً على أحد ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي. غفر الله لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه محبته ورضاه”.(۱۸)
وهنا تنقّح لدى الإمام ( عليه السلام ) موضوع مصلحة الإسلام العليا بدفع أعظم الضررين:
أولهما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء أهل بيته وبقية الصفوة الصالحة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأصحابه هو ( عليه السلام )، وهم حفظة القرآن وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، والذابون عن العترة الطاهرة، والدعاة الأمناء إلى ولايتهم وقيادتهم.
والثانية: القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم; ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد ( صلى الله عليه وآله )، ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه وتحريف وتزوير دين الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله )، ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق أهل البيت ( عليه السلام ) وباطل أعدائهم.
وهكذا اضطر الإمام الحسن ( عليه السلام ) للصلح، وكان نصّ كتاب الصلح بينه وبين معاوية بن أبي سفيان كالآتي:
هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، صالحه على:
* أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد ( صلى الله عليه وآله ) وسيرة الخلفاء الصالحين.
* ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
* أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله; في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.
* أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه.
* أنه لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) غائلة سراً ولا علانية، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
شهد على ذلك عبد الله بن نوفل بن الحارث وعمر بن أبي سلمة وفلان وفلان.
ثم ردّ الحسن بن علي هذا الكتاب إلى معاوية مع رسل من قبله ليشهدوا عليه بما في هذا الكتاب.(۱۹)
ج – وجد الإمام ( عليه السلام ) أن عليه – في سبيل بيان الأسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان – أن يكشف الحقائق ويظهر الحق لتتمّ الحجة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الإسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح. وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة.
وممّا يروى في ذلك أن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله واُثنى عليه، ثم قال: “أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فأقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعتم فيها يا معاوية، ولقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه، إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل. وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمّة عليّاً ( عليه السلام ) وقد سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي.
وقد هرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكانوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً. وقد جعل الله النبي في سعة حين فرّ من قومه لمّا لم يجد أعواناً عليهم، كذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمّة وبايعت غيرنا ولم نجد أعواناً. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.
أيها الناس، إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد النبي غيري وغير أخي”.
وعن حنان بن سدير عن أبيه سدير عن أبيه عن أبي سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال ( عليه السلام ): “ويحكم! ما تدرون ما عملت. والله للّذي عملت لشيعتي خير ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أني إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنصّ من رسول الله عليّ”؟! قالوا: بلى .
قال: “أما علمتم أنّ الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران ( عليه السلام )، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منّا أحد إلاّ يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم (عج)؟ الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم ( عليه السلام )، فإن الله عزّ وجلّ يخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير”.
عن زيد بن وهب الجهني قال: لما طُعن الحسن بن علي ( عليه السلام ) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يابن رسول الله، فإنّ الناس متحيّرون؟ فقال: “أرى – والله – أن معاوية خير لي من هؤلاء. يزعمون أنهم لي شيعة. ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأومَّن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. والله لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا اسير، أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت”.
قال: قلت: تترك يابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع؟! قال: “وما أصنع يا أخا جهينة؟ إني والله أعلم بأمر قد أدّى به إليّ ثقاته; أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً: يا حسن، أتفرح؟! كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو اُمية؟ وأميرها الرحب البلعوم، عاذر، ثمّ يستولي على غربها وشرقها، يدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن أهل البدع والضلال، ويُميت الحق وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، يقسّم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويُذلّ في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولاً، ويتّخذ عباد الله خولاً، يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من والاه على الباطل”.(۲۰)
ويروى أيضاً أنه بعد أن تمّ التوقيع على الصلح، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالإمام الحسن ( عليه السلام )، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن – متحدّياً كل المواثيق والعهود والاعراف – أنه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن عليها، وخاطب الناس المحتشدة في مسجد الكوفة قائلاً: والله إني ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون. ألا وإن كلّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين.
وهنا تململ أصحاب الإمام الحسن ( عليه السلام ) وأتباعه، وتجرّأوا عليه ووصفوه بمذلّ المؤمنين، فصبر سلام الله عليه صبراً جميلاً، وطفق يبيّن لهم الحقائق التي خفيت عنهم في أجواء الانفعال والعاطفة والغضب الذي اعتراهم من تحدّي معاوية لهم، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للإمام الحسن ( عليه السلام ) وأصحابه.
وممّا روي عنه ( عليه السلام ) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامه على الصلح: “لستُ مُذلاًّ للمؤمنين، ولكني معزّهم. ما أردتُ لمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال”.
قال ( عليه السلام ) ذلك لبشير هذا، لأنه كان أول المرتعدين من القتال. وقال لمالك بن ضمرة عندما كلّمه بشأن الوثيقة: “إني خشيت أن يُجتثّ المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين داع”.
وقال مخاطباً أبا سعيد: “يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية”.
وقال له حجر بن عدي، وكان وجهاً من وجوه صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصحابة علي وابنه الحسن ( عليه السلام )، عندما خاطب الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد أن سمع كلام معاوية على المنبر وهو يتنصّل من كل الشروط التي وقّعها مع الإمام ( عليه السلام ): أما والله، لقد وددت أنك متّ في ذلك، ومتنا معك، ثم لم نَرَ هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا. إلاّ أن الإمام أرسل إليه بعد انصرافه إلى بيته وقال له: “إني قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل إنسان يحب ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم”.(۲۱)
وعن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: حدثني رجل منّا قال: أتيت الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت: يابن رسول الله; أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ؟ ما بقي معك رجل. قال: “وممَّ ذلك؟” قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية، قال: “والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ لم أجد أنصاراً، ولو وجدت انصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً; إنهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا”.
قال: وهو يكلّمني إذ تنخّع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه مليء مما خرج من جوفه من الدم. فقلت له: ما هذا يابن رسول الله؟ إنّي لأراك وجعاً! قال: “أجل، دسّ إليّ هذا الطاغية من سقاني سمّاً، فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعاً كما ترى”.(۲۲)
ولقد أشار الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) إلى هذه المصلحة الإسلامية العليا في صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية بن أبي سفيان بقوله: “والله، للّذي صنعه الحسن بن علي ( عليه السلام ) كان خيراً لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس”.(۲۳)
ـــــــــ
۱ – البحار ۴۳: ۲۳۸، ب ۱۱، ح ۳٫
۲ – البحار: ۴۳: ۲۶۳، ح ۸٫
۳ – المصدر نفسه، ح ۱۱٫
۴ – المصدر نفسه: ۲۹۴٫
۵ – المصدر نفسه.
۶ – المصدر نفسه: ۲۹۱٫
۷ – نهج البلاغة – الخطبة ۷۴٫
۸ – الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۴۸۲ – ۴۸۳٫ وراجع: تاريخ الأمم والملوك ۱: ۱۷۵، والفتوحات الإسلامية ۱: ۱۷۵، والكامل لابن الأثير ۳: ۱۰۹٫
۹ – راجع سيرة الأئمة الاثني عشر للحسني ۱: ۴۸۵ – ۴۸۶٫
۱۰ – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ۳: ۲۹۵٫ القرشي: حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ۱: ۴۳۳٫
۱۱ – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ۳: ۹، ۱: ۲۸۳٫
۱۲ – القرشي: حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ۱: ۴۸۰٫ الحسني: سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۴۹۵٫
۱۳ – الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۴۹۶٫
۱۴ – القرشي، حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ۱: ۵۳۰٫
۱۵ – الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۵۰۰ – ۵۰۱٫
۱۶ – الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۵۱۱ – ۵۱۳٫
۱۷ – المفيد، الإرشاد: ۱۹۰٫
۱۸ – الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۱: ۵۱۴ – ۵۱۸٫
۱۹ – سيرة رسول الله وأهل بيته ۲: ۳۴ – ۳۵، نقلاً عن الفتوح لابن أعثم ۴: ۱۹۵٫
۲۰ – الطبرسي، الاحتجاج ۲: ۲۸۸ – ۲۹۱٫
۲۱ – احمد بن اعثم، الفتوح ۴: ۱۶۱ و ۱۶۶٫
۲۲ – الطبرسي، الاحتجاج ۲: ۲۹۱٫
۲۳ – الكليني، الكافي ۸: ۳۳۰٫