يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلی رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾([1]).
هذه الآيات تبشّر النّبي صلّی اللّه عليه وآله وسلّم بأعظم بشری، وتقول:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ويأتي التأكيد الآخر:
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً لا تغتمّ أيّها النّبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقی علی هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظلّ علی هذا المنوال. الذي يتحمل الصعاب، ويقاوم العواصف سوف ينال يوما ثمار جهوده، وستخمد عربدة الأعداء، وتحبط دسائسهم، ويتمهّد طريق التقدم والتكامل ويتذلل طريق الحق.
بعض المفسّرين ذهب إلی أنّ هذه الآيات تشير إلی فقر المسلمين في معيشتهم خلال الفترة الاولی من الدعوة، لكن المفهوم الواسع للآيات يستوعب كلّ ألوان المشاكل. أسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النّبي صلّی اللّه عليه وآله وسلّم وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامّة مستنبطة ممّا سبق. وتبشّر كلّ البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كلّ عسر إلی جانبه يسر، ولم ترد في الآية كلمة «بعد» بل «مع» للدلالة علی الاقتران.
نعم، كلّ معضلة ممزوجة بالانفراج، وكلّ صعوبة باليسر، والاقتران قائم بين الإثنين أبدا.
وهذا الوعد الإلهي يغمر القلب نورا وصفاء. ويبعث فيه الأمل بالنصر، ويزيل غبار اليأس عن روح الإنسان([2]).
وعن رسول اللّه صلّی اللّه عليه وآله و سلّم قال: «و اعلم أنّ مع العسر يسرا، وأنّ مع الصبر النصر، وأنّ الفرج مع الكرب…»([3]).
وروي أنّ امرأة شكت زوجها لأمير المؤمنين علي عليه السّلام، لعدم إنفاقه عليها، وكان الزوج معسرا فأبی علي أن يسجن الزوج وقال للمرأة: إنّ مع العسر يسرا (ودعاها إلی الصبر)([4]).
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اخری، فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائما في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة اخری.
وَإِلی رَبِّكَ فَارْغَبْ، أي فاعتمد علی اللّه في كلّ الأحوال.
اطلب رضاه، واسع لقربه.
الآيتان- حسب ما ذكرناه- لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كلّ مهمّة. وبالتوجه نحو اللّه في كلّ المساعي والجهود، لكن أغلب المفسّرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كلّ واحد منها مصداقا للآيتين.
قال جمع منهم: المقصود، إنّك إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع اللّه واطلب منه ما تريد.
أو: عند فراغك من الفرائض انهض لنافلة الليل.
أو: عند فراغك من امور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الربّ.
أو: عند فراغك من الواجبات توجه إلی المستحبات التي حثّ عليها اللّه.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلی العبادة.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد النفس.
أو: عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة.
الحاكم الحسكاني- عالم أهل السنة المعروف- روي عن الإمام الصادق عليه السّلام في «شواهد التنزيل» في تفسير الآية إنّها تعني: «إذا فرغت فانصب عليّا بالولاية»([5]).
القرطبي في تفسيره روی عن بعضهم أنّ معنی الآية: «إذا فرغت فانصب إماما يخلفك». (لكنّه ردّ هذا المعنی). موضوع «الفراغ» في الآية لم يذكر، و كلمة «فانصب» من النصب أي التعب والمشقّة، ولذلك فالآية تبيّن أصلا عاما شاملا. وهدفها أن تحث النّبي باعتباره القدوة- علی عدم الخلود إلی الراحة بعد انتهائه من أمر هام. وتدعوه إلی السعي المستمر.
انطلاقا من هذا المعنی يتّضح أنّ التفاسير المذكورة للآية كلّها صحيحة، ولكن كل واحد منها يقتصر علی مصداق معين من هذا المعنی العام.
وما أعظم العطاء التربوي لهذا الحثّ، وكم فيه من معاني التكامل والإنتصار!! البطالة والفراغ من عوامل الملل والخمول والتقاعس والاضمحلال. بل من عوامل الفساد والسقوط في أنواع الذنوب غالبا.
وحسب الإحصائيات، مستوی الفساد عند عطلة المؤسسات التعليمية يرتفع إلی سبعة أضعاف أحيانا.
وبإيجاز، هذه السّورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصّة للنّبي الأعظم صلّی اللّه عليه وآله وسلّم، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدی القرآن.
تفسير النور – بتصرّف، سماحة الشيخ محسن قراءتي
([1]) سورة الشرح: 5– 8.
([2]) ممّا ذكرنا يتّضح أنّ الألف واللام في (العسر) للجنس لا للعهد، و(يسرا) وردت نكرة، لكنّها تعني الجنس أيضا، وتنكيرها في مثل هذه المواضع للتعظيم.
([3]) تفسير نور الثقلين، ج ٥، ص ٦٠٤، حديث ١١، ١٣.
([4]) المصدر السابق.
([5]) شواهد التنزيل: ج ٢، ص ٣٤٩، الأحاديث ١١١٦ إلی ١١١٩.