Search
Close this search box.

ثورة الأنبياء عليهم السلام في المجتمعات

ثورة الأنبياء عليهم السلام في المجتمعات

عندما يُبعث الرسول يُحدِثُ ثورةً ويُوجِدُ حركةً ثوريّةً في المجتمع، وهذه الحركة الثورية هي بمعنى إيجاد تيّارٍ جديدٍ يشمل الفكر والعمل والقِيَم وسائر القضايا المطروحة في مجال حياة الإنسان. هذه هي حركة الرسول الثوريّة، وهذا هو معنى حركة الدين وثورة الدين، أيّ عندما يُبعث النبي فإنّه يُغيّر أذهان الناس التي كانت إلى ذاك الحين محدودة التفكير، فمن يرى الدنيا مجموعةً من الموجودات الإنسانية السجينة في هذا العالم المادي أو في القبيلة – مثلًا لو فرضنا أنّ عدد أعضاء القبيلة الفلانية 500 شخص أو ألف شخص أو 10 ملايين شخص أو 50 مليون شخص أو مئة مليون شخص، وهو مثلًا عدد كلّ سكان الأرض آنذاك، لا فرق في ذلك قلّ العدد أو كثُرَ، المهم هو وجهة النظر المادية – فأُفق تفكيره محدود.

واليوم أيضًا فعندما يحصر ماديّو العالم عالمَ الخلق – أيّ الوجود – بما تراه عين الإنسان أو بما يمكن رؤيته بالعين، فهُم في الحقيقة ضيّقو الأفق ومحدودو التفكير، ويرون كلّ شيءٍ ضمن حدودٍ ضيّقةٍ وتحت سقفٍ واحد. لكن ليس للموحّد هذه النظرة المحدودة، فهو يعتقد أنّ للوجود أفقًا آخر أوسع ممّا تراه العين أو ممّا يُمكن لها أن تراه، لا يُمكن إحصاؤه وعدُّه، وهو عالم الخلق الإلهيّ والوجود الإلهيّ.

في الواقع، الاعتقاد بالله يُخرج الإنسان من دائرة ضيق الأفق ومحدوديّة التفكير، ويُدخله في بحرٍ لا نهاية له من الوجود والكينونة، وهذا يحصل في عالم الذهن وعالم الفكر. إذًا، فحينما تحدُث ثورة الرسول ويتحقّق ذاك التيّار النبويّ والتيّار الإلهيّ في عصر الرسول، فأوّل ما يفعله هو أنّه يُغيّر أذهان الناس. إنّ الناس الذين كانت تنحصر كافّة مبادئهم، وتمنياتهم، ومودّتهم، وآمالهم، ورؤاهم المستقبلية، وآلامهم وعلاجاتهم في أنفسهم وفي أصنامهم – أيّما كانت تلك الأصنام – يشعرون فجأةً “أنّ الأكوان والأفلاك مُلكٌ للعالم ذاكَ” ، وأنّ العالم أساسًا لا ينحصر بما هو هنا، ويتساءلون وعمّا وراء الدنيا، وحتّى الرسول نفسه كإنسانٍ لا يُتّخذُ حدًّا لنظرة الإنسان الموحد ولرؤيته، فالنبي يُمكن النظر إليه من جهة أنّه بوابةٌ نحو بحر الوجود العظيم ذاك ومُحيط الكينونة الأزلي، وإلّا فليس الأمر أنّ كلّ شيءٍ ينتهي عند وجود الرسول، وما إن ينتهي الحدّ الوجودي للرسول ينتهي معه كلّ شيء، وإنّ فكرة عدم محدودية الحقائق بالرسول هي أوّل ما يمنح الإنسانَ نظرةً إلهيةً ونظرةً توحيديةً ويُخرجه من محدوديّته، فيرى أنّ الحياة لا تنتهي بالموت. فكم هناك من الفارق بين من يرى أنّ الحياة هي هذه العشرون أو الخمسون أو الستون سنةً التي قد يعيشها الإنسان عادةً، ومن يرى أنّ هذه العشرين أو الخمسين أو الستين سنةً ليست إلّا جزءًا ضئيلًا جدًّا وقطرةً من بحره الوجودي. كم تختلف نظرة الإنسان! فتلك الأولى ضيّقة الأفق، وهذه الثانية هي رحابةٌ في الفكر واتّساعٌ في النظرة للعالم. صحيحٌ أنّ الذهنية التي تحدّثتُ عنها تُغيّرها الثورة، لكنّ هذا التغيير لا يقتصر على هذه المقولة، بل يشمل الكثير من القضايا في فكر الإنسان، ثمّ تأتي الثورة على أعمال النّاس وتغيّرها وتحوّلها. غالبًا ما يكون سلوك الإنسان وتعامله شخصيًّا وفرديًّا ومُقترنًا بالمعصية والأساليب الخاطئة في الحياة، ومترافقًا مع الأنظمة الفاسدة للحياة الجَماعِيّة، وهذه هي طبيعة أعمال الإنسان، وما إن يأتي التيّار الإلهيّ الثوريّ هذا فإنّه يُغيّرها جميعًا وينزع عن الإنسان أساليبه الخاطئة في الحياة مخاطبًا إيّاه: لا تكذب يا سيّد! لا تَغْتَبْ يا سيّد! لا تتّهم يا سيّد! لا تُسِئ الظنّ يا سيّد! لا تكن أنانيًّا يا سيّد! لا تعمل من أجل نفسك فقط! لا تسعَ من أجل نفسك وحسب! مجموع هذه الأوامر يشكّل ذاك التصرّف والتغيير في أنماط الحياة اللذَين تضطلع بهما الأحكام الإسلامية.

يأتي الإسلام حاملًا أنماطًا جديدةً في شؤون الاقتصاد، وفي شؤون الحكومة، وفي الشؤون الاجتماعية والفردية، وفي شأن الأسرة، وتربية الأبناء وفي كلّ شيءٍ، معتبرًا أنّ تلك الأساليب كانت خاطئة، ويقدّم الأساليب الصائبة، ثم يُغيّر حينها النظام القِيَمي ومنظومة القِيَم كذلك. افترضوا أنّ الناس كانوا يتباهون آنذاك بكون الرجل مُتجبّرًا يبطش بأقرانه ويطرحهم أرضًا بضرباته، وأنّه كان مهمًّا لديهم أنْ يذكر الجميع اسمه بخشية، ويتملّقونه حينما يظهر في الحي، ثمّ بعد مجيء النظام الإلهيّ غدت القيمة بأن يقول شخصٌ: “لقد قدّمتْ أُسرتنا ثلاثة شهداء”، ويقول آخر: “مصادفة غريبة! فقد قدّمتُ أنا أيضًا – بصفته أبًا أو أُمًّا – أربعة شهداء”. فالقيمة تصبح في هذه الأمور، وتصير الشهادة قِيمة، وجريح الثورة قيمة، وتقديم عينٍ في سبيل الله قيمة: في جبهات الحرب، في بازى دراز ، في هُويزه، في سوسنغرد (سوسنگرد)، افترضوا أنّ القتال في عمليّات الفتح المبين وبيت المقدس يغدو هو القيمة، وأساسًا، فإنّ القِيَم تتغيّر بالمطلق.

في الماضي، سواء قبل الإسلام أم قبل الثورة، كانت القِيَم شيئًا ثمّ غدت شيئًا آخر. إذًا، حينما تأتي الثورة الإسلامية – وقد كانت في عصر الرسول ثورةٌ إسلاميةٌ أيضًا، وما جرى آنذاك هو عين ما جرى في زمانكم هذا – تُغيّر حياة الناس، أي تُوجد تيّارًا جديدًا للحياة. ومقابل هذا التيّار يقف التيّار السابق وهو تيّار الحياة الطاغوتية، سمّوه ما شئتم. مردُّ تسميتنا إيّاه بالطاغوتي أنّه تطغى فيه الأهواء والأنانيّات على الحياة وعلى القِيَم الحقّة، والإنسان الذي يقبع على رأسه هو الطاغوت. كما بإمكانكم تسميته بتيّار الحياة الجاهلية، لأنّه بُني على أساس الجهل بالقِيَم الإنسانية، ولا يوجد فيه أيّ اهتمامٍ بها، ويُصار فيه إلى الجهل بالقِيَم الحقيقية. كما يمكننا تسميته تيّار الكفر بالمعنى الأصلي للكلمة، وهو السَّتْر، لأنّ حقائق الخلق وحقائق الإسلام تُستَرُ فيه.

تفسير سورة المجادلة، الإمام السيد علي الخامنئي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل