لطالما كانت العدالة الاجتماعية هاجساً لدى البشرية منذ الأزل. لعلّ السبب كان أن البشر أدركوا أن العدالة هي المفتاح للتغلب على العديد من الأزمات وتشكّل الحل لها. ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالاً للسيدة آزادة محبّي تحاول فيه الكاتبة دراسة مفهوم العدالة الاجتماعيّة وفق الآية 25 من سورة الحديد وضمن منظور الإمام الخامنئي.
مقدمة
يرى الإمام الخامنئي أنّ العدالة كانت همّاً طبيعياً وتاريخياً ودائماً للبشر عبر التاريخ. ونتيجة الشعور بالحاجة إلى العدالة التي عمت جميع الناس على مرّ التاريخ وإلى يومنا هذا، دخل مفكّرو البشرية والفلاسفة والحكماء في هذه المقولة وأضحت مورد اهتمامهم (1)؛ لكن دور الأديان استثنائي. فالعدالة من الأهداف المهمة للنظام الاجتماعي الإسلامي ومن المفاهيم الإستراتيجية والقيمية للأديان السماوية. لأنه إذا تم توفير العدالة، فسيتم توفير حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية أيضاً وسيحقّق البشر حقوقهم وحرياتهم (2). وعليه، فإن هذا المقال يتناول مكانة العدالة الاجتماعية في المجتمع ودور الناس في تحقيق العدالة.
[1]. العدالة؛ مقدمة النمو والسموّ البشري
«في عالم الحياة الاجتماعية، ما يُعرَّف على أنه هدف البعثة هو العدالة الاجتماعية» (3) «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (4). باعتقاد الإمام الخامنئي، إن المعنى اللغوي للعدالة هو الوسطيّة، وبعبارة أخرى وضع الأمور مواضعها. دون إفراط أو تفريط، دون الانحراف يميناً أو يساراً (5). لكن القسط هو نفس العدل في العلاقات الاجتماعية. هذا هو ما يتم تفسيره اليوم على أنه «عدالة اجتماعية». بالطبع، القسط هو تقسيم العدل ليصبح شكلاً من أشكال العدالة الاجتماعية (6). من ناحية أخرى، في بيئة العدالة يمكن للبشر أن ينموا ويبلغوا مقامات عالية ويحققوا كمالهم البشري. القسط والعدالة هما مقدّمتان إلزاميّتان لكمال الإنسان المطلق (7). وبالتالي، فإن هدف الأنبياء في عالم الحياة الاجتماعية هو مقدمة لتحقيق نفس الهدف الموجود في الحياة الفرديّة. أي التحول الداخلي نحو الأفضل وأن يصبح المرء إنساناً بحقّ (8).
[2]. تشكيل النظام السياسي ضرورةٌ لتحقيق العدالة
في الفلسفة السياسية عند الإمام الخامنئي، لا يُعدّ تشكيل الحكومة هدفاً، بل إن تشكيل الحكومة وسيلة لتحقيق الهدف السامي، وهو حاكميّة الدين، وأحد الأهداف المهمة للدين هو تحقيق العدالة الاجتماعية (9). يعتقد سماحته أنّه لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون السلطة. العدالة الاجتماعية لا تتحقق بالنصح والتوصية والرجاء والتمنّي. وهل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على التمييز والظلم في المجتمع والعالم بدون قوة (10). «وعلى هذا الأساس، يقول الله تعالى مباشرة بعد «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»، يقول: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» (11)، أي أن الأنبياء، بالإضافة إلى التحدث بلغة الدعوة، فإنّهم مجهّزين بأذرع القوّة لمعارضة ومكافحة الطغاة والفاسدين الباحثين عن السلطة» (12). في مكان آخر، يعتبر سماحته أن معنى «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» هو حياة البشر في ظل نظام عادل تتاح فيه للبشر الفرصة للنمو والتكامل، والهدف من إرسال الحديد هو الدفاع عن القيم الأصلية به (13). كذلك، يعتقد الإمام الخميني (رض) أن «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» يعني أنّه إذا تحدّثتم معهم بالبيّنات، ولم يسمعوا، إذا تحدثتم معهم بموازين العقل ولم يستمعوا، فتعاملوا معهم بالحديد (14). في مكان آخر، تشير كلمة بأس إلى شدّة الفعل والصرامة وممارسة السلطة (15).
[3]. دور الناس في تحقيق العدالة الاجتماعية
مما لا شك فيه أن أحد الأهداف التربوية للأنبياء هو أن ينمو الناس ويسموا، وحينها يصبحون أنفسهم مجرىً للعدالة. لذلك، يعتبر الإمام الخامنئي العدالة من جملة سمات المجتمع الإسلامي، ويعتقد أنه إذا لم يكن هناك عدالة في المجتمع، فيجب على المجتمع الإسلامي توفيرها (16). كذلك، يعتقد آية الله مصباح اليزدي أيضًا أنه على إثر مساعي الأنبياء الإلهيين، يمكن للناس أن يصلوا إلى مرحلة من النمو حيث يسعون أنفسهم إلى إقامة العدل، بحيث لا تكون هناك حاجة للأنبياء إلى إقامة العدل في المجتمع من خلال الإجبار والإكراه. بالطبع هذه الطريقة لمن يتم تحفيزهم على إقامة القسط من خلال البيّنات والكتاب والميزان. لكن هناك من لا يتأثر بهذه الأشياء، ويتجاوز كل شيء باتباع الأهواء والرغبات لتحقيق مصلحته. هؤلاء الأشخاص يمكن ويجب إجبارهم على قبول العدالة بموجب المتطلبات القانونية، التي يعتبر القانون الجنائي الإسلامي جزءًا منها؛ لهذا السبب، جاء في استمرار الآية: و«وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ» (17). يعتقد آية الله مطهري أيضاً أن البشر بحاجة إلى العدالة وأن الأنبياء فقط هم الذين يوفرون هذه الحاجة. لذلك فإن القرآن يقبل الحقيقة المفرغ منها أنه لو لم يُرسل الأنبياء لما كان هناك عدالة في حياة الإنسان، ولكن بما أنه ليس إكراهًا، فإنّ «الكتاب» و «الميزان» قد أُعطيا للبشر لإدارة حياتهم (18). ويشير في مكان آخر إلى أن الآية المذكورة لا تقول «لِيقیموا النّاس بِالقسطِ» أي أنه يصل إلى القسط بنفسه، بل يقول: «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»؛ أي يعمل من خلال هداية وتعاليم الأنبياء بالقسط. (19). يعتبر العلامة الطباطبائي (ره) أنّ الأمر بالعدالة في الآية «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» هو أمر بالعدالة الاجتماعيّةـ ويعتقد أن المراد من العدالة في ظاهر الآية وسياقها هي العدالة الاجتماعيّة، بحيث يتم التعاطي مع كل فرد من أفراد المجتمع كما يستحق ويوضع في المكان الذي يستحقه، وهذه الخصوصية مكلّف بأدائها كل فرد من أفراد المجتمع. بمعنى أن الله تعالى يأمر كل فرد من أفراد المجتمع يحقق العدالة، ولازم ذلك أنّ الأمر يتعلّق بالمجمع أيضاً، لذلك يكون الفرد مسؤولًا عن تنفيذ الحكم، والحكومة في المجتمع مسؤولة عن ذلك أيضاً (20).
[4]. العدالة الفردية جذر وأساس العدالة الاجتماعية
يعتقد الإمام الخامنئي، أنّه «بالنسبة لكّل إنسان، تمثّل العدالة الفردية والذاتية للمرء في واقع الأمر سنداً للعدالة الاجتماعية وصاحبة التأثير في العدالة على صعيد الحياة الاجتماعية. ليس بمقدور من يفتقد للتقوى في ذاته وفي عمله، وهو رهين أهوائه النفسية وأسيرٌ للشيطان، الادّعاء بقدرته على تطبيق العدالة في المجتمع» (21). يقول سماحته في مكان آخر: «بالرغم من أنّ تأمين العدالة العامة والشاملة منوط بهذه البنى التحتيّة، فإنّ وجود هذه البنى لا يعني بالضرورة استقرار العدالة. قد تتوفّر لدينا هذه الأمور من دون أن تتوفّر العدالة؛ هذا ما ينبغي الحذر منه. ما يضمن العدالة هو الإنسان المؤمن الحازم العازم ذو الإرادة والخائف من الله. الذي يخاف الله ولا يخاف أحدًا سواه. إذا كان هذا يمكن عندئذ بواسطة هذه الأجهزة المتنوّعة والعصريّة والجيّدة بلوغ العدالة بنحو تام. وإذا لم تكن مثل هذه الإرادة أو كانت ضعيفة أصابها الخلل، فإنّ أيًا من هذه الأجهزة لن تضمن العدالة بشكلٍ تلقائي بل قد تكون أحيانًا أرضيّةً لانعدام العدالة» (22). «فالعدالة لا تتحقق في أية بقعة من العالم عن طريق لغة النصح، وإنما إقرار العدل على ربوع المعمورة. بالنحو الذي سيرسيه وارث الأنبياء. أو في أيّ من بقاع العالم، يحتاج إلى أن يمسك العادلون والصالحون ودعاة العدل من الناس بالقوة ويخاطبوا الجبابرة بلغة القوة» (23). هذا دليل على أهميّة بناء الذات والتهذيب الداخلي للأفراد في الإسلام، لذلك يرى المفكرون الإسلاميون أن العدالة الفردية مقدمة لأي تحوّل، بما في ذلك العدالة الاجتماعية. فالإنسان العادل على دراية بجميع أبعاد ومكونات وخصائص العدالة ويلحظها جميعها في أفعاله وكلامه وسلوكه. يلتفت جيداً إلى حقوق الآخرين أثناء سعيه للحصول على حقوقه، يراعي القوانين ويسعى إلى خلق التوازن والمساواة في المجتمع من أجل خلق مجتمع خالٍ من التمييز والامتيازات الظالمة. يجب أن يتّصف كل من يشغل مناصب حكومية رسمية في الحكومة الإسلامية بالعدالة. بالطبع، يختلف مستواه من شخص لآخر. إن أكمل أنواعها موجود في ولاية الفقيه، وآليات تحقيق العدالة الفردية هي عبارة عن التزكية والتهذيب والمراقبة والمحاسبة (24).
النتيجة
يرى الإمام الخامنئي أنّ للعدالة أهمية وميزة خاصة ومحورية. لقد أشار مراراً، وبالاستناد إلى الآية 25 من سورة الحديد، إلى أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتاب يهدف لتحقيق القسط والعدالة بين المجتمعات؟ كما يرى سماحته أنّ التزكية هي الهدف الأعلى والأسمى لبعثة الأنبياء، وتحقّق العدالة وتشكيل الحكومة مقدّمتان للوصول إلى النمو والسمو الإنساني، لذلك فكلّ شيء هو مقدّمة للتزكية والطهارة. يرى سماحته أن تحقيق العدالة والوصول إليها بغية سمو الناس يكون من خلال إجراءهم للعدالة، وهذا يتطلب تربية فردية وتهذيباً أخلاقياً لجميع الناس، لا سيّما القائمين على شؤون البلاد.
المراجع:
1. من كلمته في الملتقى الثاني للأفكار الاستراتيجية، 17/05/2011.
2. من كلمته في خطبة صلاة الجمعة 14/11/2003.
3. في لقاء مع القائمين على شؤون البلاد 21/01/1993.
4. سورة الحديد شطر من الآية 25.
5. في لقاء مع أعضاء 11/11/2004.
6. في لقاء مع القائمين على شؤون البلاد 21/03/1992.
7. في لقاء مع مجموعة من قادة وضباط الشرطة بتاريخ 16/07/1997.
8. في لقاء مع القائمين على شؤون البلاد 21/03/1992.
9- عبد الحسين خسروبناه، المنظومة الفكريّة لآية الله الخامنئي، ص 1211
10. في لقاء مع القائمين على شؤون البلاد بتاريخ 09/12/1996.
11. سورة الحديد، شطر من الآية 25.
12- لقاء مع شرائح شعبية مختلفة بمناسبة عيد النصف من شعبان، 22/10/2002.
13. آية الله خامنئي، مشروع الفكر الإسلامي في القرآن، ص 389 (نسخة فارسيّة).
14. السيد روح الله الموسوي الخميني، صحيفة الإمام، ص 206 (نسخة فارسيّة).
15. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، المجلد 18(نسخة فارسيّة)..
16. في لقاء مع القائمين على شؤون البلاد، 01/01/1993.
17. محمد تقي مصباح اليزدي، راه وراهنماشناسی (الطريق وإرشاد)، ص 136(نسخة فارسيّة).
18. مرتضى مطهري، النبوة، ص 55(نسخة فارسيّة).
19- مرتضى مطهري، نقد الماركسية، ص 324(نسخة فارسيّة).
20. السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، المجلد 12، ص 479-478(نسخة فارسيّة).
21- من كلمته في خطبة صلاة الجمعة في طهران بتاريخ 16/03/2001.
22- في لقاء رئيس وأعضاء السلك القضائي بتاريخ 28/06/2009.
23- لقاء مع شرائح شعبية مختلفة بمناسبة عيد النصف من شعبان، 22/10/2002.
24. نجمة كيخا، مجموعة مقالات ملتقى الأفكار استراتيجية حول العدالة.