﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أفَأنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين﴾. يونس: 98.
القصة
لما أيس يونس عليه السلام من إيمان قومه دعا ربه عليهم فقال: يا رب! إن قومي أبوا إلا الكفر فأنزل عليهم نقمتك فأوحى الله عز وجل اليه: إني أنزل بقومك العذاب، قال: فخرج عنهم يونس وأوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام، وأخرج أهله، فانطلق حتى خرج عنهم. فصعد جبلاً ينظر إلى أهل (نينوى) ويترقب العذاب. وبعث الله عز وجل جبريل، فقال: انطلق إلى مالك خازن النار فقل له يخرج من سموم جهنم على قدر مثقال شعيرة، ثم انطلق به فأحط به أهل مدينة (نينوى). قال: فانطلق جبريل ففعل ما أمره ربه عز وجل. وعاين قوم يونس العذاب لما هبط للوقت الذي وقت لهم يونس. ويُقال: إن العذاب لما هبط على قوم يونس فجعل يحوم على رؤوسهم مثل قطع الليل المظلم. فلما استيقنوا بالعذاب سقط في أيديهم وعلموا أن يونس قد صدقهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه. فقالوا: نجتمع إلى الله ونتوب إليه. قال: فخرجوا إلى موضع يقال له: تل الرماد، وتل التوبة وإنما سمي: تل الرماد، لأنهم خرجوا جميعا الرجال والنساء والعواتق وأخرجوا معهم أنعامهم وبهائمهم، فميزوا بين المراضع وأولادها، والبهائم وأولادها، وجعلوا الرماد على رؤوسهم، ووضعوا الشوك من تحت أرجلهم، ولبسوا المسوح والصوف، ثم استجاروا بالله ورفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء. فعلم الله عز وجل منهم الصدق. فقالت الملائكة: يا رب! رحمتك وسعت كل شيء، فهؤلاء الأكابر من ولد آدم تعذبهم، فما بال الأصاغر والبهائم؟ فقال الله عز وجل: يا جبريل! ارفع عنهم العذاب، فقد قبلت توبتهم.
الدروس المستفادة من القصة
عذاب مرفوع
لم يكتب الله عز وجل على قوم العذاب إلا عذبهم، ولكن لهذه القاعدة استثناء وهو قوم يونس بن متى، فقد كشف الله عنهم العذاب، وأما السبب في هذا الاستثناء فهو كما دلّت عليه الآية الكريمة التوبة، وهذا السبب لا يختص بقوم يونس ولكنهم هم وحدهم الذين أمكنهم تدارك الأمر. وذلك بتوبتهم مما كانوا فيه.
فالتوبة هي سبب رئيسي في نجاة هذا الإنسان من العذاب الإلهي، ولكنها لا بد وان تكون توبة صادقة، وقد ورد في العديد من الروايات صفات لهذه التوبة الصادقة، ومن أهمها أن لا تكون هذه التوبة من الإنسان كتوبة فرعون حيث تاب لما أدركه الغرق، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:”إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
ومن هذه الصفات ما ورد عن الإمام علي عليه السلام ببيان رائع: “غرسوا أشجار ذنوبهم نصب عيونهم وقلوبهم وسقوها بمياه الندم، فأثمرت لهم السلامة، وأعقبتهم الرضا والكرامة”.
وما يترتب على التوبة الصادقة ليس هو مجرد الخلاص من العذاب الإلهي بل انه النعمة الالهية، ولذا ورد في قصة قوم يونس ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾، فقد أنعم الله عليهم بعد عذاب، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: “من أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدبت (نزلت) عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها (ذهابها)، ووبلت عليه (المطر الشديد) البركة بعد إرذاذها (من الرذاذ وهو المطر الضعيف)”.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك
وصف الله عز وجل نفسه في كتابه الكريم بأنه أرحم الراحمين، ونحن عندما نصف الكامل المتعال بصفة الرحمة فإن من الخطأ أن نقيسها بما نشاهده من الرحمة بين الناس.
وقد ورد وصف الرحمة الإلهية في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:”إن الله تعالى خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فأهبط رحمة منها إلى الأرض فبها تراحم الخلق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء، وبها تعيش الخلائق.
وبملاحظة هذا نعرف أن على الإنسان أن لا يصل إطلاقاً إلى حالة اليأس من الرحمة الإلهية، فإن العذاب حتى لو كان مكتوبا على قوم كقوم يونس ولكنهم تداركوا العذاب بالتوبة فإن الله سوف يتوب عليهم. بل عدّ العلماء اليأس من رحمة الله من الذنوب الكبيرة ويذكر بعض العلماء إن فلسفة ذلك ترجع إلى أن العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئاً ينقذه ويخلصه من عذاب الله، فلا يفكر بإصلاح الخلل، أو يكف عن الذنب على الأقل لأنه يقول في نفسه: أنا الغريق فهل أخشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنم، وقد اشتريتها، فما عساي أن أفعل؟
ولكن لكل شيء سببه الخاص به ولذا ورد في الدعاء “اللهم إني أسألك موجبات رحمتك” فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ ورد في الروايات إن التوبة الصادقة هي من أهم موجبات الرحمة الإلهية، ولكن مضافاً إلى التوبة – وكما هو المستفاد أيضاً من قصة قوم يونس لا بد وان تجتمع بعض الأمور الأخرى وهي التالية:
الدعاء
ورد في الروايات عن قصة قوم يونس أنهم عمدوا إلى الخروج بأعظم مظاهر الذل لله وإظهار الفقر والحاجة والانكسار إليه فقد خرجوا إلى الصعيد بأنفسهم، ونسائهم، وصبيانهم، ودوابهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحن بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها، واختلطت أصواتها بأصواتهم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ” بذكر الله تستنزل الرحمة”.
رد المظالم
عندما يتجاوز الإنسان عما أمره الله به أو نهاه عنه، فإنه كما يعتدي على الحقوق الإلهية يعتدي في كثير من الأحيان على حقوق الناس، ولكي يصل الإنسان الظالم لمقام الرحمة الإلهية لا بد له أولاً من أن يخرج نفسه من أن تكون مدينة للناس بالحقوق، وهذا ما ورد في قصة قوم يونس أنه بلغ من توبتهم أن يردُّوا المظالم بينهم حتى كان الرجل ليأتي الحجر، وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ويرده.
وقد قال تعالى في كتابه الكريم ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأصْلَحَ فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. فلم تكتفِ الآية بأنه تاب بل لا بد وأن يصلح.
وفي ذلك يقول الإمام الخميني في كتابه (الأربعون حديثا الحديث السابع عشر): “إن على الإنسان التائب أن يردّ كل ما أخذه من الناس من دون حق إلى أصحابه وإذا وجد حقوقاً أخرى للناس في ذمته واستطاع أن يؤديها إلى أصحابها أو يطلب السماح منهم، يجب أن لا يتوانى في ذلك”.
كن رحيما تنل الرحمة
ورد في الكثير من الروايات أن على المؤمن أن يتخلق بهذا الخلق الإلهي، وذكرت بعض الروايات أن صفة الرحمة الإلهية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتخلق بها، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: “من لم يرحم الناس منعه الله رحمته”.