قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ 1
خلق الله الخلق كلاً لأجل كماله، وكمال الخلق يتحقّق بإحدى وسيلتين:
الأولى: وسيلة قهرّية جبريّة من الله تعالى، على قاعدة ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ 2، ككمال الأرض والسماء وما فيهما: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ 3.
الثانية: وسيلة اختيارية من خلالها يحقّق المخلوق المختار كماله، وهي الوسيلة الأرقى لكمال المخلوق، وقاعدتها أن يبيِّن الله تعالى طريق الكمال ويرشد إليه، والمفلح هو الذي يهتدي إلى هذه الطريق ويسير فيها.
أمَّا مصباح الهداية فقد اعتمد الله تعالى فيه على عنصرين هما: الرسالة والإنسان، فكانت الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هي الهداية إلى هذه الطريق ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ 4. أمّا الإنسان فيتمثّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والولي والعالمِ.
لذا أمر الله تعالى أن يقتدي الإنسان بهدى الأنبياء عليهم السلام ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ 5.
ولذا أمر الله تعالى أن يقتدي الإنسان بالهداة الميامين من أئمة الدين والإسلام، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إن مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق”6. “إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة”7
ومن هنا أمر الله تعالى الناس أن يتوجّهوا إلى العلماء الذين يهدون إلى كمال الإنسان، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “من أحبّ أن ينظر إلى عتقاء الله من النار، فلينظر إلى المتعلّمين، فوالذي نفسي بيده، ما من متعلّم يختلف إلى باب العالم، إلا كتب الله له بكلّ قدم عبادة سنة، وبنى الله بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفورًا له، وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء الله من النار”8.
ولأنّهم الهداة إلى الكمال الإنساني المقرّب من الله تعالى، رفع الله عزّ وجلّ منزلة العلماء ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ 9.
وتحدَّث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن رفعتهم بقوله الوارد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إنّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في الماء، ليُصلّون على معلم الناس الخير”10.
وعن الإمام علي عليه السلام: “العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد”11.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: “عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد”12.
وحثَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على التوجّه إلى العلماء قائلاً – فيما ورد عنه: “من جلس عند العالم ساعة، ناداه المَلك:جلست إلى عبدي وعزّتي وجلالي، لأسكننّك الجنّة، ولا أبالي”13.
وأرشد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى أثر سلبي كبير يترتّب على ترك مجالسة العلماء في دعاء أبي حمزة الثمالي بقوله عليه السلام: “ما لي كلّما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عَرَضَت لي بليّة أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك”.ويشرع الإمام عليه السلام بعدها في تعداد الأمور التي قد تكون أسبابًا لهذه الحالة فيقول عليه السلام:
“سيدي،
1-لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحَّيتني،
2- أو لعلّك رأيتني مستخفًا بحقّك، فأقصيتني،
3- أو لعلّك رأيتني معرضًا عنك، فقليتني،
4- أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين، فرفضتني،
5- أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك، فحرمتني،
6- أو لعلّك من مجالس العلماء، فقدتني…”14.
إنّ خلفيّة ما تقدّم من مكانةٍ للعلماء هو دورهم الذي يتعلّق بهداية الناس إلى الله تعالى. وهذا ما أكّده الإمام الهادي عليه السلام بقوله الوارد عنه: “لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدّالين عليه، والذّابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتدَّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ”15.
لأنّ دور الأنبياء والعلماء الأساس هو هداية الناس والمجتمع الإنساني إلى الكمال، ولأنّ الشفاعة يوم القيامة تمثِّل تجليًّا لهداية الهادين واهتداء المهتدين، فيشفع الهادون للمهتدين يوم القيامة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ثلاثة يشفعون الى الله يوم القيامة، فيشفعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثم الشهداء”16.
أمّا الأنبياء، فتتجلى أرقى شفاعة فيهم بشفاعة سيّدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي ورد أنه ينادي يوم القيامة بطلب من الله تعالى: “أمتي أمتي”17.
أمّا العلماء، فرأسهم أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين يُضيء يوم القيامة من نور شفاعتهم، حيث يكون أمير المؤمنين عليه السلام يعسوبَ الدين وقسيمَ الجنّة والنار.
أمّا علماء شيعتهم، فقد ورد فيهم عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: “يأتي علماء شيعتنا القوّامون بضعفاء محبّينا وأهل ولايتنا يوم القيامة، والأنوار تسطع من تيجانهم على رأس كلّ واحد منهم تاج بهاء، قد انبثَّت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلّها، فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه، ومن ظلمة الجهل علَّموه، ومن حيرة التيه أخرجوه، إلاّ تعلّق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم إلى العلوّ حتى تحاذي بهم فوق الجنان…”18.
أمّا الشهداء، فلأنّهم يهدون الناس والأمّة إلى طريق الهدى والحقّ، لكن لا بكتبهم، ولا بخطبهم، بل بدمائهم، لذا كانوا من الشفعاء يوم القيامة.
* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة المجادلة، الآية 11.
2- سورة البقرة، الآية 117.
3- سورة يس، الآية38.
4- سورة البقرة، الآية2.
5- سورة الأنعام، الآية 90.
6- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 23، ص 119.
7- البحراني، هاشم، مدينة المعاجز، ج4، ص 52.
8- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، ص 184.
9- سورة المجادلة، الآية11.
10- الشهيد الثاني، منية المريد، ص 101.
11- المرجع السابق، ص 109.
12- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص 33.
13- الشهيد الثاني، منية المريد، ص 341.
14- الطوسي، مصباح المتهجد، ط1، بيروت، مؤسسة فقه الشيعة، 1991م، ص 588.
15- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص.
16- الحميري، عبد الله، قرب الاسناد، ط1، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، 1413 هـ، ص 64.
17- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 8، ص 312.
18- الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، تحقيق محمد باقر الخرسان، (لا، ط)، النجف، دار النعمان، 1966م، ج1، ص 10.