من الواضح أن الحكاية عن بني إسرائيل احتلت النصيب الأكبر من مجمل ما حكاه القرآن عن الأمم السابقة.
ويبدو أن السبب في ذلك هو تاريخهم الحافل بالمواقف والأحداث مع الأنبياء السابقين، حيث مثلت تلك المواقف والأحداث أفضل الصور لصراع الحق مع الباطل، ولذا فصلها القرآن لتكون عبرة لأولي الألباب، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).
فقد خص الله بني إسرائيل بميراث الأنبياء وفضلهم على العالمين، قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، حيث يعود نسبهم إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) أبو الأنبياء، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ).
فلم يكونوا مجرد أمة من الأمم التي مضت في التاريخ، حيث خصهم الله بما لم يخص به غيرهم، ففيهم بعث الأنبياء وإليهم نزلت كتب السماء، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) ومن المفترض على بني إسرائيل تحمل المسؤولية وحفظ هذا الإرث وصيانته.
وقد نبههم الله كثيراً على هذا الفضل وما خصهم به من النعم، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) حيث أكدت الآية على أن بني إسرائيل كان لهم من المميزات ما تفضلهم على بقية الأمم والمجتمعات في تلك الفترة التاريخية، ومن الواضح أن كلمة عالمين في الآية لا تعني أفضليتهم على جميع البشرية منذ آدم إلى قيام يوم الدين، وإنما كان ذلك بالمقارنة مع من كان معهم في تلك الفترة التاريخية، وما يؤكد ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) فاختيارهم لا يكون إلا بمقارنتهم مع من هم معهم، أي أن الخيار وقع عليهم من بين المجموعات البشرية الأخرى، وقد نجد هذه الإشارة أيضاً في قوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي أن الله جعلها مباركة لهذه المجموعة التي هاجرت إليها.
وعليه فإن هناك عناية خاصة ببني إسرائيل وأنهم الأمة المرشحة لحمل رسالات الله، ومن الطبيعي حينها أن نفهم توالى الحساب والعقاب بمقدار توالي تلك النعم، فبمقدار ما خصهم الله به من النعم يكون حسابهم وعقابهم، فالمراقبة على مثل هذه الأمة تكون لصيقة ومباشرة، فمن جهة يرسل الله إليهم الأنبياء وينزل عليهم النعم، ومن جهة أخرى يبتليهم بالعذاب والعقاب في حالة انحرافهم عما أراده الله منهم، فالمعادلة الخاصة ببني إسرائيل هي توالي النعم إذا تم حفظها وشكرها، ونزول العذاب في الدنيا والآخرة إذا تم جحدها والكفر بها، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) وقال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ – وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ – وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ – وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)
والذي حدث أن بني إسرائيل آمن منهم القليل وكفر منهم الكثير، فكان منهم البغض والعداء لأهل الإيمان، وقتل الأنبياء والرسل، وتحريف كلام الله، ونشر الفتنة والفساد في الأرض، واشتهارهم بنقض العهود والمواثيق، ومن أجل كل ذلك استحقوا العذاب، فالله حريص على هدايتهم وتطهيرهم من درن الذنوب، إلا أن كفرهم وتمردهم على أمر الله لم يدع لهم مجال للعفو والمسامحة، و قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مع ذلك لم يعذب الله بني إسرائيل بعذاب يستأصلهم كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود. قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى).
وعليه كل ما نعرفه أن الله أنزل بعض أنواع العذاب على بني إسرائيل بما استحقوه من أفعال، وما لا يمكن معرفته لماذا يعذب الله في الدنيا على ذنوب لا يعذب بها آخرين؟ أو لماذا لا يكون العذاب متشابه إذا كانت الذنوب متشابهة؟ وليس بمقدورنا الاقتراح أو التقدير لما يجب أن يكون، فالإنسان مهما بلغ من العلم يظل جاهلاً بحقائق الأمور وعللها وغاياتها، فما نسلم به هو أن الله أعلم بحال خلقه، وهو العادل الذي لا يظلم أحد من رعيته، وهو الحكيم الذي ليس في فعل عبث، ومن لم يتم حسابه وعقابه في الدنيا فإن الحساب ينتظره في الآخرة، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).