Search
Close this search box.

شفاعة الزهراء (عليها السلام) في يوم المحشر

شفاعة الزهراء (عليها السلام) في يوم المحشر

لا ينتهي دور السيدة فاطمة عليها السلام، يوم القيامة بالاقتصاص من الظالمين وقتلة الإمام الحسين عليه السلام، بل إنَّها قد ادّخرت لنفسها موقفًا ومقامًا آخر، هو مقام الشفاعة. حيث تطالعنا الأخبار أنَّ السيدة فاطمة عليها السلام لا تدخل نعيمها المخلّد إلّا بعد أن تستنقذ كلّ موالٍ ومحبّ لها ولشيعتها من العذاب، ففي رواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر السيدة فاطمة عليها السلام عن أحداث القيامة، قال لها: “… ثُمَّ يَقُولُ جَبْرَئِيلُ عليه السلام يَا فَاطِمَةُ سَلِي حَاجَتَكِ، فَتَقُولِينَ: يَا رَبِ‏ شِيعَتِي،‏ فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَتَقُولِينَ: يَا رَبِّ شِيعَةَ وُلْدِي، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَتَقُولِينَ: يَا رَبِّ شِيعَةَ شِيعَتِي، فَيَقُولُ اللَّهُ: انْطَلِقِي فَمَنِ اعْتَصَمَ بِكِ فَهُوَ مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكِ يَوَدُّ الْخَلَائِقُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَاطِمِيِّينَ فَتَسِيرِينَ وَمَعَكِ شِيعَتُكِ وَشِيعَةُ وُلْدِكِ وَشِيعَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ آمِنَةً رَوْعَاتُهُمْ مَسْتُورَةً عَوْرَاتُهُمْ قَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُمُ الشَّدَائِدُ وَسَهُلَتْ لَهُمُ الْمَوَارِدُ يَخَافُ النَّاسُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ وَيَظْمَأُ النَّاسُ وَهُمْ لَا يَظْمَئُونَ”[1].

إنّ الرحمة التي يصورها لنا هذا المشهد البديع لا توصف، وما رحمة الفاطميّة إلّا مظهر للرحمة الإلهيّة، فالسيدة الكريمة تأبى دخول جنانها وترك أيّ محبّ لأحد من شيعتها فضلًا عن محبّي ولدها عليهم السلام أجمعين، وتصف رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام الصورة التي تستنقذ فيها فَاطِمَةَ عليها السلام لبشر، فيقول: “… فإذا صارت (السيدة فاطمة) على باب الجنّة تلتفت فيقول اللّه: يا بنت حبيبي ما التفاتك؟ فيقول: يا ربّ أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول: ارجعي وانظري من كان في قلبه حبّ لك أو لأحد من ذرّيتك فخذي بيده وأدخليه الجنّة، فتأتي وتلتقط شيعتها ومحبّيها كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الردي‏ء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنّة يلتفتون فيقول اللّه للشيعة: ما التفاتكم؟ فيقولون يا ربّ أحببنا أن نعرف قدرنا في هذا اليوم، فيقول الله: انظروا من أحبّكم لحبّ فاطمة أو أطعمكم أو كساكم لحبّها أو سقاكم شربة من ماء أو ردّ عنكم غيبة فادخلوه الجنّة، فلا يبقى في النّاس إلّا شاكّ أو كافر أو منافق”[2].

وبرغم كلّ ما تقدّم، ومع أنّ الرحمة الفاطميّة تكاد تعمّ أغلب البشر إلّا المعاندين الجاحدين، إلّا أنّ لتلك الشفاعة مقدمات وشروطاً كما لا يخفى، وهي أن يكون الإنسان من شيعة فاطمة عليها السلام الحقيقيّين، وذلك ليس بالأمر الهَيّن، والسيدة الأكمل سلام الله تعالى عليها هي بنفسها تبيّن تلك الشروط، حيث جاء في رواية أنّ رجلاً قَالَ لِامْرَأَتِهِ: “اذْهَبِي إِلَى فَاطِمَةَ عليها السلام بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَسَلِيهَا عَنِّي، أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ، أَوَ لَسْتُ مِنْ شِيعَتِكُمْ؟ فَسَأَلَتْهَا، فَقَالَتْ عليها السلام: قُولِي لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ بِمَا أَمَرْنَاكَ، وَتَنْتَهِي عَمَّا زَجَرْنَاكَ عَنْهُ فَأَنْتَ مِنْ شِيعَتِنَا، وَإِلَّا فَلَا. فَرَجَعْتُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: يَا وَيْلِي – وَمَنْ يَنْفَكُّ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، فَأَنَا إِذَنْ خَالِدٌ فِي النَّارِ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِهِمْ فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. فَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ لِفَاطِمَةَ عليها السلام مَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: قُولِي لَهُ: لَيْسَ هَكَذَا فإنّ شِيعَتَنَا مِنْ‏ خِيَارِ أَهْلِ‏ الْجَنَّةِ. وَكُلُّ مُحِبِّينَا وَمُوَالِي أَوْلِيَائِنَا، وَمُعَادِي أَعْدَائِنَا، وَالْمُسَلِّمُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ لَنَا، لَيْسُوا مِنْ شِيعَتِنَا إِذَا خَالَفُوا أَوَامِرَنَا وَنَوَاهِيَنَا فِي سَائِرِ الْمُوبِقَاتِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَا يُطَهَّرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، أَوْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعِ شَدَائِدِهَا، أَوْ فِي الطَّبَقِ الْأَعْلَى مِنْ جَهَنَّمَ بِعَذَابِهَا إِلَى أَنْ نَسْتَنْقِذَهُمْ بِحُبِّنَا مِنْهَا، وَنَنْقُلَهُمْ إِلَى حَضْرَتِنَا”[3].

إذًا فكون المرء من شيعة فاطمة عليها السلام الحقيقيّين المتستحقّين لنيل شفاعتها يوم القيامة ليس بالأمر السهل والميسر، بل إنّه يستدعي الجِدّ ويستلزم العمل الشاقّ والالتزام بأوامرهم والانتهاء عن زواجرهم عليهم السلام أجمعين. وما ذلك إلّا تعبيرٌ وتأكيد لأولوية الالتزام بالشريعة الإلهيّة التي طبقها المعصومون عليها السلام في حياتهم وبيّنوها لنا وضحّوا بكلّ وجودهم من أجلّها وإبراز أهمّيتها.

وعليه فطريق تحصيل الشفاعة واضح، وبيّن، وساطع لا لبس فيه ولا خفاء، وهو نفسه طريق السير على خطى الزهراء عليها السلام والمعصومين عليهم السلام. ومع أنّ الطريق قد يبدو للوهلة الأولى وعراً وصعباً لأنّ فيه مخالفة الهوى وطاعة ربّ العزة، إلّا أنّ أيّام الدنيا توشك أن تنقضي مهما عمّر الإنسان فيها، وتوشك الآخرة أن تقع وهي تحمل معها الخلود الدائم إمّا في الجنّة وإمّا في النار، فلا ينبغي للعاقل أن يبيع خلوده وآخرته وسعادته الدائمة في سبيل أيامٍ معدودات في دنيا تحفّها النقائص من كلّ جانب. فمن تأمّل في حياة أئمتنا عليهم السلام عموماً وحياة الزهراء عليها السلام خصوصًا وجد أنّه مع أنّ البلايا والمصائب أحاطت بها من كلّ جهة ولم تبقَ لوعة إلّا عايشتها عليها السلام إلّا أنّها صبرت بعزم إلهيّ، حتّى أفيض عليها العوض الإلهيّ بما لا يقاس به عوض ولا يدانيه شرف. علّ ذلك يكون ذكرى لنا لترك هوانا ودنيانا والمسارعة في اللحاق بركب شيعة الزهراء عليها السلام فنكون من الناجين الآمنين من العذاب ومن خيار أهل الجنّة.

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها هي أنّ الشفاعة ليست مختصّة بالسيدة فاطمة عليها السلام فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام أيضًا لهم مقام الشفاعة، بل إنّ الروايات تحكي أيضًا عن نوع من الشفاعة للمؤمنين الموالين في هذا الإطار، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه بعض طبقات الناس يوم القيامة أنّه قال: “وهَذِهِ الطَّبَقَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ وَأَجَلُّهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحِسَابِ وَالْمَوَازِينِ وَالْأَعْرَافِ وَالْجَهَنَّمِيُّونَ‏ الَّذِينَ يَشْفَعُ‏ لَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّين‏”[4]. إلّا أنّنا خصّصنا الحديث عن شفاعة السيدة فاطمة عليها السلام تحديداً لأنّها عليها السلام مورد بحثنا هذا ولكنّ ذلك لا يعني حصر مقام الشفاعة بالزهراء عليها السلام.

وإنّ طلب الزهراء عليها السلام للشفاعة هو طلبٌ في قمّة الرحمة والرأفة والرقّة والإنسانيّة والكمال، وهي بهذا الطلب تعلّمنا الكثير الكثير، فهي إضافةً إلى رسالتها، رسالة الحبّ والرأفة والرحمة والكمال، هي تعلّمنا أن نطلب بذكاء أعظم الطلبات من الله عزّ وجلّ، حيث إنّ طلبها للشفاعة هو نفسه المقام المحمود الذي طلبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الله عزّ وجلّ وسعى نحوه، إذًا فهي طلبت أعظم طلبٍ في الوجود من العظيم على الإطلاق وهي تعلم أنّها لن تُرَد خائبة، حاشا لله. وقد تحمّلت عليها السلام في سبيل تحقيق طلبها ودعائها هذا كلّ ما قاسته في حياتها من مرارات وعذابات، فالشفيع هو شخصٌ ذو شأنٍ عظيمٍ عند الله عزّ وجلّ، وقد كان لها عليها السلام ذلك الشأن، جرّاء سلوكها في حياتها. والشفيع هو الشخص الذي يسعى مريد الشفاعة نحوه، لينال رضاه وبالتالي ليحصل على الشفاعة، وعليه فإنّ هذ الطلب من الزهراء عليها السلام أوجد بشكلٍ تلقائيّ علاقة بينها وبين كلّ مريدٍ للنجاة، حيث لا يسلم أيّ إنسان من خطأ أو معصية، فالكلّ محتاج إلى فاطمة عليها السلام، الكلّ مرهون لفاطمة، الكلّ محتاج إلى شفاعتها عليها السلام، وهي بذلك تكون قد أوجدت سببًا قويًّا جدًّا للارتباط بها والسعي نحوها وطاعتها، وما ذلك إلّا سعيٌ نحو الله عزّ وجلّ ونحو طاعته وتطبيق شريعته.

إذًا فلنكن مثل السيدة فاطمة عليها السلام، تملأ مشاعر الرفق والرحمة قلوبنا وكلّ وجودنا، فنبقى نتحسّس طرق مساعدة الآخرين من حولنا، ولنكن مثل فاطمة عليها السلام نطلب بذكاء أعظم الطلبات وأجلّها، ولنطلب من العظيم المطلق والقادر المطلق ولنكن على يقين بالإجابة.

المصدر: السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة وأسوة – بتصرّف، دار المعارف الإسلامية الثقافية

[1] تفسير فرات الكوفي‏، مصدر سابق، ص 446.
[2] تفسير فرات الكوفي‏، مصدر سابق، ص 651. والجزائري، السيد نعمة الله بن عبد الله‏، كشف الأسرار في شرح الاستبصار، تحقيق وتصحيح طيّب الموسوي الجزائري،، مؤسّسة دار الكتاب‏، إيران – قم‏، 1408ه‏، ط1، ج‏1، ص 34.
[3] الإمام الحسن بن علي عليه السلام، التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، تحقيق وتصحيح مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، إيران – قم‏، مدرسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, 1409ه‏، ط1، ص308.
[4] الهلالي، سليم بن قيس‏، كتاب سليم بن قيس الهلالي‏، تحقيق وتصحيح الأنصاري الزنجاني الخوئيني، نشر الهادي‏، إيران – قم‏، 1405ه‏، ط1، ج‏2، ص608.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل