لماذا تتقدم التزكية على التعليم؟
إنّ مسألة التربية أولى من مسألة التعليم، وفي الآية الكريمة ذُكرت تلاوة آيات القرآن كذلك ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾[1]، بمعنى إيصال تلك التعليمات اللازمة على طريق التربية والتعليم، وبعدها ذكر ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾. ويمكن الاستفادة من هذا الترتيب بأن مسألة تزكية النفس أكثر أهمّية من مسألة تعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدّمة لأن يقع الكتاب والحكمة في نفس الإنسان. فلو قام الإنسان بتزكية نفسه وبتربيتها وفق توصيات الأنبياء عليهم السلام التي أهدوها للبشر، فإنّه بعد التزكية سيرتسم في نفس الإنسان الكتاب وكذلك الحكمة بمعانيها الحقيقية، ويصل الإنسان إلى الكمال المطلوب. ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً﴾[2]. تُبيّن الآية بأنّ العلم وحده ليس له فائدة. العلم الذي لا تربية فيه ولا تزكية ليس له فائدة، فكما أنّ الحمار لا يستفيد من الكتب التي في خرجه، سواء كانت كتب التوحيد أو الفقه أو كتب معرفة الإنسان، ومهما كانت لن تكون ذات فائدة للحمار، كذلك حال الذين يخزنون شتّى أنواع العلوم والمعارف في باطنهم دون أن يقوموا بتربية نفوسهم وتزكيتها، فهؤلاء علومهم ليست لها أيّة فائدة، بل إنّها في أغلب الأحيان مضرّة. وفي كثير من الأحيان فإنّ ذلك الشخص العالم الذي يعرف كلّ شيء غير أنّه لم يقم بتزكية نفسه وتصفيتها وتربيتها بحسب التربية الإلهية، يكون علمه وسيلة لهلاك البشر. وما أكثر العلماء الذين يجلبون الفساد للبشرية، أولئك أسوأ من الجهّال. وما أكثر أصحاب الاختصاصات الذين جلبوا الهلاك والدمار للبشر، أولئك أسوأ من عامة الناس وضررهم أكبر، وكما يُبيّن القرآن ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ بل هم أسوأ منه لأنّ علمهم يؤدّي إلى تدمير الآخرين.
فعلى العاملين في مجال إعداد المعلّمين وكلّ من يعمل في هذا المجال أن يعلم أولًا بأنّ هذا العمل هو عمل إلهي. فالله سبحانه وتعالى هو مربّي المعلّمين الذين هم الأنبياء. فإذاً، أوّلاً العمل عمل إلهي، وثانياً إن التربية والتزكية متقدّمة على التعليم.
لو كان في مدارسنا وكلّياتنا وجامعاتنا وجميع المدارس التعليمية سواءً التي تُدرّس العلوم الإسلامية أو غير الإسلامية، (لو كان فيها) التربية والتزكية، لاستطاعت أن تُقدّم الخدمات وتهدي للبشرية السعادة، فكلّ سعادات البشر هي من العلم والإيمان والتزكية: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[3]، فالإنسان، أصله هذا الحيوان الذي يدعى بالإنسان، وهو في خسران وضرر، إلّا طائفة واحدة، وهم أولئك الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى وبما أمر به، وعملوا الصالحات. وكان من آثار ذلك الإيمان أن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، يوصون بالحق وبالصبر، وإلّا إذا خرج من هذا الاستثناء ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُو﴾ فهو ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، في خسران وضرر. اسعوا إلى تربية وتزكية أنفسكم قبل التعليم والتعلّم، اسعوا أن تكون التربية جنباً إلى جنب الدراسة والتعليم، وأن تكون كما هي بحسب الرتبة، متقدّمة على التعليم وتلاوة القرآن وتعلّم الكتاب والحكمة. فوظيفتكم تربية المعلّمين، المعلّمين الملمّين بكافة العلوم التي يحتاجها الإنسان والبشر سواءً في الدنيا أو في الآخرة، بالإضافة إلى ذلك وقبل كلّ ذلك يجب أن يكون في صلب عملكم تزكية النفس. وإذا لم يكن ذلك، فإنّ تربيتكم وتعليمكم إذا لم يجلب الضرر للبشر فإنه لن يجلب النفع لهم بل إنّه مضر.
إنّ جميع هذه الأضرار التي لحقت بالبشر وكلّ هذا الخسران الذي يواجهه البشر على هذه الكرة الأرضية هو بسبب العلماء الذين لديهم تخصّص لكن ليس لديهم أية تربية.
نحن إذا قمنا بتزكية أنفسنا وفق التربية الإسلامية وكان الله عزّ وجل وليّنا وليس الطاغوت، فإنّ هذه النقائص الموجودة في نقاط مختلفة من بلدنا وفي مختلف أنحاء العالم ستزول وتنعدم. فجميع الاختلافات التي تظهر – ما عدا الاختلاف بين الحق والباطل – هي بسبب أننا لم نُربّ أنفسنا ولم نُزكّها.
إنّ أكبر عدو لنا هو نحن، أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. فنفس الإنسان هي العدو الأكبر له، فإذا لم يعمل على تربيتها وتزكيتها فإنّها ستسوقه إلى هلاكه وتدخله في الظلمات التي آخرها الظلام الأكبر الذي هو جهنّم. إنّنا إذا قمنا بتربية أنفسنا، فإنّ جميع مشاكلنا سوف تُحل، إذ إنّ جميع مشاكلنا سببها عدم تزكية أنفسنا وعدم خضوعنا للتربية الإلهية والانضواء تحت لواء الإسلام. وحسب الواقع فإنّ جميع هذه الأزمات التي تُشاهدونها وجميع الموانع التي تواجه شعبنا، سببها عدم وجود تربية في البين، وعدم وجود تزكية، ليس هناك إلا الجهل أو العلم الذي هو أكثر ضرراً من الجهل على الإنسان. لقد ذكر الله عزّ وجلّ ميزان العلم بواسطة الأنبياء، وواقع الأمر هو أنّ “العلم نور”، يقذفه الله في قلوب الناس، فإذا أوجد النورانية فهو العلم وإذا أصبح حجاباً للإنسان فذلك ليس العلم بل هو الحجاب “العلم هو الحجاب الأكبر”.
فأنتم الذين تريدون أن تربّوا أنفسكم أو تربّوا المعلّمين، عليكم أن تجعلوا التربية على رأس كلّ الأمور وفي مقدّمتها، فنفوس الشباب مستعدّة لتقبّل أيّ شيء يُلقى فيها، فهي كمرآة مصقولة لم تنفصل عن فطرتها، وهذه المرآة تعكس كلّ ما يرتسم عليها. فإنّ كان المعلِّم معلِّماً يدعو إلى النور ويدعو إلى الصلاح وإلى الإسلام وإلى الأخلاق الحميدة والقيم الإسلامية والإنسانية، تلك القيم التي يرضاها الله، فإن فعل ذلك، كما كان الأنبياء يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، فإنه أيضاً يخرج الشباب من الظلمات إلى النور، وعمله هو عمل الأنبياء عليهم السلام، ولو أن المعلّمين – لا قدّر الله- ساروا على خلاف طريق الحق والصراط المستقيم ولم يقوموا بتربية وتزكية أنفسهم فإنّ آراءهم وأفكارهم المنحرفة سترتسم على مرايا نفوس شبابنا وتحرفهم عن الطريق المستقيم إمّا شرقاً أو غرباً[4].
تهذيب النفس، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الجمعة، الآية 2.
[2] م.ن، الآية 5.
[3] سورة العصر، الآية 2.
[4] صحيفة الإمام، ج 13، ص 505 – 508.